"أين أنت ذاهب" أجاب قاسم أمه "حي على الجهاد"، فأوقفته على "درج" المنزل مذكرةً " غدًا يوم فرح شقيقك"، فابتسم وهو ممتشق سلاحه مطمئنًا " وديني قد دعاني للرباط"، فتساءلت برهبة وصوت مسموع "ولو لقيت ربك شهيدًا قبل فرح شقيقك"، فرد على سؤالها وهو يربّت على كتفيها بحنان " يصبح الفرح اثنين ويكون الله قد كتب لي احدى الحسنيين".
حوارٌ دار بين الشهيد قاسم محمد قاسم، ووالدته قبل سنواتٍ تقارب السبعة، قبل زفاف شقيقه حسن. ذكرته لنا أمه أثناء مقابلة "الرسالة نت" لها في بيتها.
" وُلدَ قاسم في شتاء 1984، وحمل لأهل بيته الخير منذ قدومه حتى رحيله صيف 2014، (..) حياته مُسَخَرَة لبر الوالدين والوطن والسلاح". تضيف أمّه " صبورًا، وكتومًا، هي صفاته، فلم يطلب مالًا منا منذ صغره لمدرسته، وكثيرًا ما كنا نكتشف أنه يذهب سيرًا على الأقدام صيفًا وشتاءً، ذهابًا وإيابًا، من وإلى مدرسته، من الشيخ رضوان حتى حي الرمال".
الشدائد علّمته الصبر، وتربيته داخل المساجد منذ صغره حبب لقلبه القرآن وعلومه، حتى تخصص بالجامعة الإسلامية دراساتٍ إسلامية، وتخرج منها، ليكمل فيما بعد دراسته للغة العبرية.
زواجه والقسام
وفي احدى الليالي استيقظت الأم لتتفقد أبنائها، فلم تجد "قاسم" في فراشه، وتوالت الليالي وقلقها يزداد. تضيف الأم " ذهبتُ مسرعة لشقيقه، فأخبرني أنّه منضمٌ لكتائب القسام". ومضى على هذا الكلام ما يزيد عن 13 عامًا.
عمل بشكلٍ مستمر في صفوف القسام، هي حياة الشهيد قاسم، فقررت والدته عقد قرانه على ابنة عمّه، وما أن علِمت أم العروسِ بالخبر، حتى استبشرت خيرًا. تقول "حماته –أم أشرف-"، " أفضل ما رأت عيني يختلج بقاسم. وجدته نِعم الرجل لابنتي. ملتزم أخلاقيًا ودينيًا. ومن يخاف الله لا يُخاف منه".
وفي احدى زيارات "أم أشرف" لبيت ابنتها، لم تشاهد قاسم، فسألت عنه لكنّهم لم يخبروها بادئ الأمر، ثم توالت الزيارات وفي كل مرةٍ لم تجده، حتى تلاقت الأجساد في غرفة الضيافة، فابتسم لها وبادرها القول " اشتقنالك يا خالة، وين أيامك"، فعاتبته قائلة " أنت ما في غيرك بحماس، ولا القسام معطيك كل شغله، ولا بدك أروح لمسؤولك وأحكيله". ثم ابتسم الطرفان لكسر جمود الحديث. وفق "حماته".
حرب وزواج
حفل الزفاف تقرر أن يعقد بالحادي عشر من ديسمبر لعام 2008، ولم يلبث أسبوعين حتى بدأت "إسرائيل" بشن عدوانٍ على قطاع غزة بالسابع والعشرين من ذات الشهر. فناداه الجهاد .. ولبّى النداء.
انتهى العدوان على القطاع، وبعد 4 سنواتٍ شنّت "إسرائيل" هجمة أخرى استمرت لثمانيةِ أيام، وخلال عام 2012 رزق بولده البكر. فأسماه على اسم رفيقه –الذي استشهد بالعدوان- "عمر".
حبّه للأطفال جعله يدير نقاشات حنونة مع زوجته في كل ليلة، يخبرها أنّه يريد أن ينجب عشرةً من الأولاد، لكنّه عدل عن قراره، معلنًا استكفائه بطفلين.
وذات ليلةٍ "رومانسية" على سرير النوّم، تلاقت عينا الزوجان، وتبادلا حديثًا ورديًا بشأن تسمية الطفل القادم، فقالت له " شو راح نسمي البيبي الجديد"، لمعت ابتسامته كاشفة عن أسنانه وقال لها " سنسميه خالد". أدارت وجهها وأخبرته " لا أحب هذا الاسم. ولن نسميه به". "إذا نسميه قاسم" قال لها، فلم تستطع أن تبقي على جديتها في الحديث، حتى ابتسمت وهي تتحدث معه " هذا الاسم بالتحديد سيتسبب له بالمشاكل حينما يناديه مدرسوه "ما اسمك" ويجيبهم "قاسم" وما اسم ابوك "ويجيبهم قاسم" وعائلتك "ويجيبهم قاسم".
لم ينتهِ النقاش بتلك الليلة إلا بعدما قرر الطرفان على انهائه بقوله لها " يوم ولادته ستسميه بإرادتك قاسم"، رفعت أصبع يدها الأيمن وهي تشير إليه محدثة " آه إذا استشهدت سأسميه على اسمك".
وداعٌ ورباط
مساء السابع من تموز/يوليو، نادى المنادي " حي على الجهاد". فقد بدأت الحرب على غزة من جديد.
ارتدى قاسم جعبته العسكرية، وامتشق سلاحه من جديد، ليذهب حيث الأوامر القسامية، إلى خندقه في شمال قطاع غزة.
تقول أم عمر-زوجته-، "خلال فترة الحرب لم يدخل بيته سوى مرتين، الأولى في آخر يومٍ بشهر رمضان، ولم يقبل أن يودع أحد، وفي المرة الثانية خلال احدى أيام التهدئة المعلنة لمدة ثلاثة أيام، وودّع خلالها جميع أصدقائه وأهل بيته، وزار حماته خصيصًا وقبّل رأسها، ونال رضى الجميع، ثم عاد للجهاد".
"الجمعة" كان اليوم الأخير الذي يودّع فيه قاسم أهله. عاد للرباط وفي جيبته عطرٌ برائحة المسك، وتخندق بجوار محطة الخزندار للبترول شمال القطاع.
الشهــادة
" مجموعته مكونة من أربعة عناصر، مرابطون شمال القطاع، زوجي ورفيقه محمد أحمد _ أبو الصامد_ كانوا تحت شجرةٍ ينتظرون الأوامر القسامية". تقول أم عمر.
توجّه أبو الصامد نحو بيتٍ مجاورٍ للشجرة، لكنّ الطائرات الحربية "الإسرائيلية" شنّت هجومًا على المكان، فقصف المنزل الذي يتواجد فيه.
تتابع أم عمر حديثها الذي نقل تفاصيله عناصر القسام، مخفية وراء ابتسامتها ألم البُعاد، "أسرع قاسم نحو زميله أملًا في انقاذ حياته، لكنّ الطائرات الحربية أعادت الهجوم في ذات اللحظة، فارتقى الاثنان مساء الثالث من أغسطس/آب، شهداء.
اتصالٌ هاتفي على بيت العائلة لحظة استشهاد قاسم، كان كفيلًا بأن يزيد عدد دقات قلب زوجته أضعافًا مضاعفة. رفعت سماعة الهاتف بعدما تأكدت من المتصل أنه أحد أفراد القسام، وقبل البدء بالسلام، سألته " هل استشهد قاسم؟".
لحظاتٌ فارقة في حياة أم عمر، بين السؤال وانتظار الاجابة، لكنّ شقيق زوجها حمل لهم نبأ استشهاده المؤكد، لتعيش الأسرة على ذكرياته الخالدة في أذهانهم.
وفي الثاني عشر من سبتمبر/أيلول، وُلد الطفل المرتقب للعائلة، ابن أبو عمر، فأوفت الزوجة بوعد زوجها، وأسمته على اسم والده ليصبح اسمه "قاسم قاسم قاسم".