ينتظرون حتى يسدل الليل ستاره على بلدتهم، ويخلد الناس لفراشهم الدافئ في ليالي الشتاء الباردة، ليلتقوا بعيدا عن أعين الناس، يحضرون قنابلهم الحارقة، بدائية الصنع، وينتظرون اللحظة المناسبة للانقضاض على العدو الذي أرّق نومهم، وسلب أرضهم وشوّه طفولتهم.
فتية لم تتجاوز أعمارهم العقد الثاني، ولدوا وكبروا في قرية بورين، الواقعة على السفوح الجنوبية لمدينة نابلس، شمالي الضفة المحتلة، تلك السنوات القليلة من حياتهم، كانت كفيلة بأن تتغير خلالها ملامح القرية الواعدة بعد أن شوهها الاستيطان، فلم يملك هؤلاء الفتية سوى القليل من المواد الحارقة ليصنعوا بها قنابل يدوية قد تطفئ نارها بعضا من غضبهم.
لكن مساء السبت الأخير من يناير، فقد حلّ حاملا معه وجعا جديدا لتلك القرية، بعد أن أصاب رصاص جندي (إسرائيلي) وريد "أحمد" فأرداه شهيدا على الفور، خلال ذهابه لممارسة جهاده حسب طاقته، حاملا معه زجاجة حارقة صنعها بيده، ويصب زيتها وغضبه على الاحتلال، إلا أن رصاص الكمين الذي أعد له، كان أسرع من أي شيء.
أصوات إطلاق نار كثيف سمعت على أطراف القرية غربا، فعلم الناس أن وراء ذلك الرصاص قنبلة حارقة ألقيت على مركبة لجيش الاحتلال أو المستوطنين، حيث أصبح ذلك طقساً يؤديه فتية البلدة، في كل مساء.
مرت بعض الدقائق، حتى تتالت الأخبار عن وجود شهيد في المكان، وأن هناك جريحا قد نجح بالفرار، تضاربت الأنباء حول صحة اسم الشهيد، لتكون تلك الدقائق وصوت الرصاصات كافية بأن تخبر قلب "أم أحمد" أنها لن تراه مرة أخرى يسير على قدميه، بل سأتي لها محمولا.
بعد ما يقرب الساعتين، أعلن رسميا عن تسليم جثمان الشهيد الفتى أحمد النجار (19 عاما) للهلال الأحمر الفلسطيني، وأعلن قلب أمه وأبيه الحزن للأبد على فلذة كبدهم، وبكرهم وأول فرحتهم بالدنيا.
محمد النجار أحد أصدقاء الشهيد روى لـ، بعضا عن حياة أحمد، فيقول:"هو الابن الأكبر لوالديه، وله سبعة من الأخوة والأخوات، وكان يعمل مع والده في البناء، ليساعده في توفير المال للعائلة، بعد أن تركه مكانه على مقاعد الدراسة".
ويضيف:"الاحتلال دائما يقتحم القرية واعتقل أكثر من عشرين فتى وشاب خلال السنة الأخيرة بتهمة إلقاء القنابل الحارقة، وقد تم الحكم على عدد منهم بالسجن لشهور عدة على خلفية إلقاء القنابل".
فخلال الشهور الأخيرة تصاعدت عمليات إلقاء القنابل الحارقة على المركبات الإسرائيلية المارة عبر طريق يتسهار جنوبي نابلس، والمحاذي لقرية بورين، حتى باتت القرية مرتعا للاحتلال والمستوطنين بهدف التغيص على حياة أهلها، وشن حملات اعتقالات في صفوف الفتية الصغار، عدا عن الاقتحامات المتكررة للمدرسة الثانوية للذكور في القرية، والتهديد بإغلاقها في حال استمر إلقاء المولوتوف.
ومع بزوغ الفجر الأول لرحيل أحمد، كان الاحتلال يرتع في قرية بورين، واعتقل خلالها فتيين محمد عسعوس (18 عاما)، وعبد الرحمن النجار (16 عاما) حيث يتهمهما الاحتلال بأنهما كانا برفقة الشهيد أحمد عندما كان متجها لإلقاء القنبلة.
وادعى الاحتلال ظهر اليوم الأحد، اعتقاله الجريح الذي كان برفقة الشهيد، واعتقال السائق الذي أقلهما للمكان.
وشيعت مدينة نابلس، وقرية بورين، ظهر اليوم جثمان الشهيد أحمد، من أمام مستشفى رفيديا بالمدينة، باتجاه قريته بورين، حيث ألقت عليه عائلته نظرة الوداع في منزله، ووري الثرى بمقبرة القرية، فيما صدحت حناجر أصدقائه وفتية القرية بمواصلة طريق أحمد، والانتقام لدمائه.