يواجه الشاب ناصر أحمد (اسم مستعار)، عنفا شديدا من والده الستيني الذي يبقيه أغلب الوقت حبيس الجدران ويرفض خروجه من البيت إلا في اضيق الظروف وتحت عين أفراد الأسرة، وفي ذلك محاولة لثنيه عن تعاطي الحبوب المخدرة (الاترامادول).
يعيش أحمد (28 عاماً)، منذ أشهر تحت الإقامة الجبرية، لكن ذلك لم يحل دون تعاطيه للعقاقير، حيث كشف عن احتفاظه بالحبوب داخل الحمام، يتناولها بشكل سري دون علم أسرته، وحتى زوجته التي تعد واحدة من أكثر المراقبين داخل الأسرة على سلوكه وتصرفاته، بطلب من الحمى.
يقول الشاب إنه تعرض للضرب المبرح أكثر من مرة، واستخدمت معه أسرته أسلوب التجريح، بصفته يمثل وصمة عار للعائلة، إلا أنه مازال مقتنعا بأن تعاطيه يعطيه الفرصة للتخلص من الهموم والضغط العائلي.
هذه الحالة تضعنا أمام مشكلة كبيرة داخل المجتمع المعروف بعاداته وتقاليده، حيث لا يجد المدمنون فرصة للإقلاع عن التعاطي إلا عنوة وبغير رغبتهم، وهذا يعطي نتائج أكثر سلبية خاصة إذا لم تتوفر الإرادة الحقيقية، وفق قول مختصين.
غرف مغلقة
ووقفت معدة التحقيق على أكثر من حالة مشابهة تماما لقصة الشاب احمد، حيث واجهت عددا من الأسر التي اعتادت على محاربة تعاطي ابنائها بحرمانهم من المصروف والزج بهم في الغرف المغلقة بعد تعريضهم للعنف.
وبعد التعرف على وجهة نظر الآباء في هذا الصدد والتي انحصرت في الضرب سبيل وحيد لدفع الأبناء للإقلاع عن التعاطي، استمعنا إلى روايات المدمنين فتبين أن معظمهم لم يقلعوا عن جرمهم وأن الضرب لم يكن رادعا كافيا لثنيهم عن البقاء في هذا المستنقع.
وهنا تبرز مشكلة أعقد، تتعلق بالدور الحكومي وراء عدم توفر مركز متخصص في علاج الإدمان على اعتبار أن ذلك جزء مما نص عليه القانون لمكافحة قضية الإدمان، إضافة للبحث عن السبب وراء عدم وعي المواطنين بأن العلاج يجب أن يكون مكفولا رسميا وبالمجان؟.
وبعد جولة استكشافية لمعدة التحقيق لعدد من المراكز الصحية، تبين أن العلاج الذي يقدم للمدمنين لم يرع بصفة رسمية ولم يأخذ طابع الفطام المتعارف عليه والذي يجب أن يخضع على إثره المتعاطي لفترة من العلاج تتطلب علاجا طبيا وسلوكيا لغاية التخلص من السموم المتغلغلة في الدم.
وعلى إثر تعامله مع عشرات حالات الادمان يرفض مدير برنامج غزة للصحة النفسية د. نمر أبو زرقة كافة الأساليب التي يتبعها الأهل لأجل ثني أبنائهم عن التعاطي، كالضرب والحبس والاهانة. يقول أبو زرقة الذي التقيناه في مقر عمله بخانيونس: "لن ينجح أحد في تخليص مدمن من المخدرات ما لم يكن هذا المدمن مقتنعا وذا إرادة قوية للتخلص من الإدمان، فقناعته بالعلاج وإرادته للتخلص من الإدمان هي أول عنصر من عناصر الشفاء، ثم تكون الإجراءات التالية أسهل".
وأضاف: "كل أسلوب عنيف للتخلص من الإدمان ستكون ردة الفعل عليه عنيفة يتبعها إصرار على الاستمرار".
ويشير الأخصائي في علاج الإدمان- الذي أودع لديه المدمنون حكايتهم مع العنف الأسري- إلى مسألة خطيرة، تتعلق بتحول كثير من المدمنين من تعاطي وإدمان الهيروين والكوكائين إلى عقار (الترامادول).
تورط الجنسين
غير أن أبو زرقة أشار إلى جهود حثيثة يبذلونها في برنامج غزة للصحة النفسية، لغاية توفير العلاج بشكل مجاني ووفق آلية علاج سرية مع المدمنين، علما أنه لفت إلى خطورة عدم تعلق الإدمان بجنس دون آخر ويقصد الذكور دون الاناث.
وكشف عن أن بعض الفتيات وقعن في وحل التعاطي وادمن العقاقير المخدرة، وعلى ضوء ذلك تورطن في جريمة الزنا وسقطن في فخ الانحراف نتيجة عجزهن عن توفير المال اللازم لشراء المخدرات، فحاولن توفيره بالطرق الأخرى.
ولكن في حكاية ريهام (اسم مستعار)، تبدو المسألة أكثر مأساوية، حيث أن السيدة وقعت ضحية زوج مدمن، أجبرها كما تقول على التعاطي.
ريهام (32 عاما) هي واحدة من النسوة اللواتي عانين من جراء التعاطي لمدة خمس سنوات، تشير إلى أن زوجها كان يخدعها في بداية الأمر بوضع عقار الاترامادول في المشروب قبيل إقامة العلاقة الزوجية.
وقالت السيدة إن صدمتها بزوجها كانت تمثل صاعقة بالنسبة لها، على اعتبار أنه ارتضى لها الإدمان لمدة خمس سنوات رأت خلالهن كما تقول العذاب، لولا أنها اتخذت قرارا باللجوء إلى احدى العيادات الخاصة للأطباء النفسيين بهدف الإقلاع عن المخدرات.
ريهام تقول إنها سعيدة بالتعافي من الإدمان، رغم حاجتها الماسة للاستمرار في العلاج النفسي لضمان عدم التعرض لانتكاسة جديدة، إلا أن خوفها من اكتشاف أمرها جعلها تحجم عن متابعة العلاج، كما تقول.
وتشير إلى أنه فيما لو كان هناك مركز صحي رسمي، لكان ذلك قد سهل عليها عملية مواصلة الفطام على ايدي اشخاص مختصين، بدلا من الارتهان لتوجيهات الطبيب النفسي الذي يعد أقل خبرة في توجيه المدمنين.
ومن المعروف أن عملية التخلص من الإدمان تمر بثلاث مراحل، أولها: الفطام، وهي تقوم على سحب السموم من الجسم وتمتد من أسبوع إلى عشرة أيام، وفي هذه المرحلة تظهر على المدمن الأعراض الانسحابية مثل زيادة التعرق، والوجع في العضلات وآلام في الظهر ونوبات ارتجاج في الجسم وإسهال واكتئاب وارتفاع في درجات الحرارة.
أما المرحلة الثانية فتقوم على التأهيل النفسي، بينما تعد المرحلة الأخيرة بمثابة تحصين للمتعاطي لضمان عدم حدوث انتكاسة مستقبلا. غير أن الحالتين سالفتي الذكر لم تخضعا إلى هذا النوع من العلاج القائم على التسلسل العلمي.
ثقافة وصمة العار
على ضوء ذلك عبر مدير عيادة رفح النفسية د. يوسف عوض الله، عن أسفه من سوء الثقافة المجتمعية المتعلقة بإحداث زيارة الطبيب النفسي وصمة عار للأسرة.
وعلى اثر ذلك يقول عوض الله إن الأهالي يجدون في الضرب والتعنيف وسيلة لكبح جماح المتعاطين من أبنائهم، مؤكدا أن مثل تلك الأساليب الخاطئة لم يكن لها أن تضع حدا للإدمان.
مختصون: الأهالي يعتبرون العنف وسيلة لكبح جماح المتعاطين من أبنائهم وهذا خطر
وأضاف: "المشكلة الرئيسية تكمن في الإرادة والاقتناع لدى المدمن بضرورة التخلص من التعاطي، كما أن المشكلة الأخطر هي العنف في علاج المدمن بحبسه وضربه والتضييق عليه".
وهنا نبه عوض الله إلى ضرورة وجود مؤسسة رسمية صحية تضمن اخضاع المدمنين للفطام بطرق علمية، معيبا عدم توفر مراكز فطام في قطاع غزة الذي يزيد عدد سكانه عن مليون و800 ألف نسمة.
وقال "فقط لدينا مراكز تصرف الدواء كأي صيدلية، في حين أن المدمنين لا يخضعون لمتابعة حثيثة من أطباء متخصصين تجنبا لمحاولة بعض اصدقاء السوء ايقاعهم مجددا في وحل التعاطي".
ويشير عوض الله إلى أن ما نسبته 41% من المترددين على عيادته جاؤوا بدافع التخلص من الإدمان، مؤكدا أن عقار (الترامادول) اخترق جميع الفئات المجتمعية بما فيها طلاب الجامعات ومدراء مدارس ومهندسين وأطباء ونجارين وحدادين.
وأوضح أن هذا العقار تبين أنه يحتوي على خليط من المكونات المخدرة، وفقا للأعراض التي تظهر على مدمنيه.
وأمام حالة الشاب حسن محمد (اسم مستعار)، فيظهر سوء تفكير المجتمع في التعامل مع المدمنين، حيث أوعز والد الشاب إلى عمه صاحب البنية العريضة، بضرورة تعنيفه بأشد صورة، لكبح جماح تعاطيه الترامادول، فأوسعه ضربا مستخدما قضيبا حديديا أدمى أجزاء متفرقة من جسده.
الصحة: مركز الإدمان في المستشفى النفسي يقتصر عمله فقط على صرف الأدوية
وعلى ضوء تردي حالة الشاب حسن كثيرًا مع استمراره بالإدمان والتعرض للعنف الذي لم يحقق غاية الاسرة بثنيه عن التعاطي، اضطر الأهل للاستعانة بطبيب نفسي مشترطة عليه ممارسة العلاج داخل جدران البيت خوفًا من وصمة العار المجتمعية.
وهنا يقول الطبيب المعالج الذي فضل عدم الكشف عن اسمه: "صدمت بما تعرض له الشاب من تعذيب شديد من أجل الكف عن المخدرات، ضرب ضربًا شديد من قبل أكثر من شخص حتى يقلع عن المخدرات لكن تلك المحاولات لن تأتي إلا بمعاناة إضافية لهذه الأسرة".
قوانين غير فعالة
وبالتعرض إلى مواد القانون الساري المفعول في قطاع غزة والمتعلق بالمخدرات، نجد أن معظمها غير فاعلة بشهادة المختصين.
وحمل البند رقم 6 من المادة 32 نصا واضحا بوجوب إنشاء الصندوق الوطني لمكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية، أما البند السابع فنص على وجود لجنة الإشراف والرعاية وهي لجنة تختص بمتابعة المتعاطيين الذين تأمر المحكمة بإيداعهم في مصحات خاصة لتوفير العلاج الطبي والنفسي والاجتماعي بدلا من تنفيذ عقوبة الحبس.
وعمليا نجد أن المادة 32 - التي تنص على أنه لا تقوم الدعوة الجنائية على من يتقدم للجنة الإشراف من تلقاء نفسه من متعاطي المواد المخدرة للعلاج ويبقى في هذه الحالة خاضعا للعلاج في المصحة حتى تقرر لجنة الإشراف القرار اللازم- غير مفعلة على اعتبار أنه لا يوجد لجنة إشراف تعمل في القطاع.
وفي هذا السياق يؤكد مسئول قسم الرقابة القانونية في الإدارة العامة لمكافحة المخدرات بغزة النقيب أشرف أبو سيدو أنه لا تقام الدعوة الجنائية على من سلم نفسه أو بمساعدة أحد من أجل العلاج.
النائب العام: نحتاج ترتيبات تشريعية تحكم تعامل القضاء مع المدمن الباحث عن الفطام
وقال أبو سيدو إن المشكلة الأكبر انه لا يوجد أي مؤسسة حكومية متخصصة لعلاج المدمنين على العقاقير المخدرة وخاصة الترامادول، مضيفا: "واجهنا مدمنين يأتون لمراكز الشرطة طلبا للعلاج لكن عدم وجود أي عيادة حكومية لمعالجتهم يعطل عملنا".
ويأسف مسؤول قسم الرقابة القانونية في الإدارة العامة لمكافحة المخدرات لغياب دور وزارة الصحة بتوفير مستشفى متخصص لعلاج الإدمان، قائلا: "نضطر لسد هذا الفراغ من خلال التواصل المركز الفلسطيني لعلاج ضحايا الإدمان وهو مركز غير مؤهل لاستيعاب عدد كبير وضعيف الإمكانيات".
كما انتقد أبو سيدو عدم تفعيل اللجان القانونية للتعامل مع المدمن المعالج، وقال: "غياب تفعيل هذه اللجان يعطل العمل بمواد القانون، لذلك إن بادر أحد المدمنين بتسليم مواد مضبوطة وقال إنه يريد العلاج، يحول إلى النيابة للتوقيف إلى حين النظر في أمره، وذلك لأنه لا يوجد حتى اللحظة آلية واضحة لهذا الجانب"، مشددًا على أن شرطة مكافحة المخدرات تتعامل مع المدمنين كضحايا وليس كمجرمين.
أما عن آلية التعامل مع المدمنين الموقوفين، فأوضح أبو سيدو أنه كثيرًا ما تظهر الأعراض الانسحابية على من يتم إلقاء القبض عليهم،" فإذا ما كانت حالة المدمن بسيطة يتم معالجتها في مركز التوقيف أما الحالات التي تتطلب مستشفيات يتم ترحليها للمستشفيات الحكومية" كما قال.
إشكالية قانونية
وفي هذا الصدد، لم ينكر النائب العام إسماعيل جبر أن هناك إشكالية قانونية تحتاج إلى ترتيبات تشريعية فيما يتعلق بمسألة تعامل القضاء مع المدمن الذي يريد العلاج.
وقال جبر "اذا تم التأكد من جدية المتعاطي في التوجه نحو العلاج من خلال المراكز المؤهلة يمكن التغاضي عنه قبل تحريك الدعوى القضائية، وحدث قبل أيام أن جاء أحد المتعاطين يسلم ما بحوزته لشرطة مكافحة المخدرات مؤكدًا أنه ينوي العلاج".
وأضاف النائب العام "أما في حالة إيداعه في السجن، فمن الممكن أن يتم وضع برنامج علاجي بحيث يستفيد من مؤسسة صحية في التخلص من الإدمان".
وعليه أقر جبر بالحاجة الماسة إلى مركز خاص لعلاج المدمنين، قائلا: "نأمل من الحكومة تفعيل الصندوق الوطني، لأن مثل هذا الصندوق يعني مساعدة فئة المتعاطين على القفز من وحل المخدرات خصوصا انهم ضحايا".
وشدد على أن الهدف ليس عقاب المتعاطي بل الإصلاح، وقال: "نحن نساعد أي شخص صادق في التخلص من آفة المخدرات، لذلك نأمل أن يكون هناك قرار من قبل الحكومة بتفعيل مراكز الفطام لحماية ضحايا هذا الآفة".
وعندما عدنا إلى وزارة الصحة ممثلة بوحدة الطب النفسي، وجدنا أن هذه الوحدة لا تمثل حاضنة للمدمنين، حيث تشير مديرة الوحدة د. خضرة العمصي إلى أن مركز الإدمان الذي يوجد بمشفى الطب النفسي يقتصر عمله على صرف أدوية لمن يريد التخلص من الإدمان فقط.
مكافحة المخدرات: نتعامل معهم كضحايا وليس كمجرمين
وقالت العمصي: "نخضع الحالات الجديدة لبرنامج علاجي، يتخلص فيه المدمن إذا ما التزم خلال شهرين من الإدمان"، دون أن توضح آلية البرنامج المستخدم.
العمصي لا تحمل مسئولية عدم وجود مصحة حكومية خاصة بعلاج الإدمان لوزارة الصحة وحدها بل وزعتها على كل من وزارتها ووزارة الشئون الاجتماعية والداخلية.
وقالت: "من المفترض أن يكون هناك تعاون مشترك لأجل إيجاد مركز كبير متخصص ومستقل لعلاج الإدمان(..) هناك ستة مراكز صحة نفسية تستقبل المدمنين في القطاع لكنها ليست متخصصة".
وأَضافت "هناك قصور ونقص في التوعية بآلية التخلص من الإدمان في المجتمع الفلسطيني، ويكاد يصل المتعاطي إلى قناعة الاقلاع عن الإدمان تحت وطأة الظروف المادية والفقر".
وتشير إلى أنه لا توجد إحصائيات عن عدد الوفيات بسبب المخدرات، معتبرة أن هناك محاولات للتعتيم من الأهالي عن سبب الوفاة التي قد تكون ناتجة عن التعاطي وتصنف على أنها جلطات قلبية".
وأمام هذا القصور الواضح، يبقى هذا التحقيق بمثابة طرقة على جدار الخزان لعل الجهات المسؤولة تأخذ دورها على أكمل وجه وتعيد تصويب بوصلتها في التعامل مع حالات الإدمان وضرورة رعايتهم بما يضمن لهم ايجاد حاضنة رسمية ولجنة اشراف قانونية تضمن حقهم في العلاج بعيدا عن الزج في السجون أو الغرف المغلقة.