القدس – خاص " الرسالة نت
"الله يرضى عليك يا ابني طلبت الآخرة وما رضيت بالدنيا".. عبارة مثقلة بالدموع خرجت من بين شفتي والدة الأسير الشهيد رائد أبو حماد وهي تحاول لملمة صور آخر زيارة قامت بها له في سجن بئر السبع.
ولا بد لمن يعرف فطرة الاحتلال الإجرامية أن يدرك نيته السوداء تجاه هذا الأسير، ففي زيارات الأهل كان دوناً عن كل الأسرى يُجلب مكبلاً بالقيود والسلاسل ومصحوباً بجنديين ضخمي البنية، فيستغرب أهله كل هذه الإجراءات ويحاولون الطلب من إدارة السجون تخفيف الخناق عن ابنهم.
وتقول والدته أم محمد لـ"الرسالة نت ":" زرته آخر مرة قبل شهرين ومن ثم مُنعت التصاريح، ولم نكن نرتاح خلال الزيارة لكل تلك الإجراءات، فنطلب من الجنود فك قيده ولكنهم كانوا يصرخون بي وبزوجي، فكنا نكمل الزيارة ونحن نتحسر على حاله".
ويتحشرج الصوت لدى الأم الثكلى وتغلبه الدموع، حتى إذا استذكرت وجود فلذة كبدها في البيت قبل اعتقاله غصّت بجميل الذكريات التي تعلم أنها لن تعود رغم السنوات التي انتظرتها للقاء رائد.. ولكن قيود السجن كانت أقرب لقتل آمالها وإشعال آلامها.
" الله يرضى عليه، كان يكره الظلم طوال حياته، واليوم يستشهد مغموساً بظلمهم، الله يرضى عليك ويرحمك يا رائد..".
قويٌ يرهب الجنود
في ظهيرة يوم الأحد 26/6/2005 رن جرس هاتف عائلة أبو حماد التي تقطن بلدة العيزرية شمال شرق القدس المحتلة، فإذا به صوتٌ لا يتقن العربية إلا القليل منها يخبرها باعتقال ابنها رائد "27 عاما" بسبب طعنه جندياً صهيونياً عند باب العامود.. وكم من قلب أمٍ زغرد لفعاله وكم من قلب مظلوم أثلجه صنيعه.
أما رائد – الحائز على درجة (دان2) دولياً في رياضة الكاراتيه- فشارك العشرات من جنود الاحتلال في اعتقاله وتكبيله والزج به إلى إحدى الآليات وصولاً إلى مركز تحقيق المسكوبية، وهناك حيث يذوق الأسرى قساوة التعذيب رفض أن يكون من بين المستضعفين، فلم يتردد لحظة واحدة عن ضرب المحقق ورد اللكمات التي كان يوجهها ذاك الغادر إليه.
وبعد عام ونصف تقريباً كما يوضح شقيقه محمد لـ"الرسالة نت" تم الحكم عليه بعشر سنوات بسبب إصابة الجندي بجروح متوسطة عندما طعنه رائد، وبقي يتنقل بين سجني هداريم ونفحة حتى قرر الاحتلال عزله في سجن إيشيل في بئر السبع.
ويقول محمد:" كان الجنود يخافون من رائد ويقتربون منه ببطء ومن ثم ينقضون عليه لتكبيله دفعة واحدة لأنه لم يكن يترك لهم حرية التحكم به ورفض الذل مراراً ولم يتوان عن ضربهم، وفي إحدى الأيام قام أحد الجنود باستفزازه متعمداً فرد عليه رائد بضربه، ومن ثم قررت إدارة سجون الاحتلال نقله إلى العزل الانفرادي".
وعندما استفسرنا عن تلك الجزئية التي نشرتها إدارة السجون بين كل وسائل الإعلام حول معاناة رائد من مرض نفسي، أكد شقيقه أنه شاب صحيح الجسد والعقل ولم يعان يوماً من أي مرض، وأكبر دليل على ذلك هو تصرفاته الطبيعية للغاية عند الزيارة قبل شهرين، وأنه لم يعانِ من أي أمراض نفسية أو عقلية كما تدعي إدارة السجون لتبرير ما اقترفته بحقه.
" شقيقي رائد حنون لطيف مع الكل إلا مع الاحتلال، فكان الجنود كثيراً ما يستفزونه ويحاولون إذلاله وهو يرفض ذلك ويثور عليهم، وهذا في قاموسهم مرض نفسي".
إهمال مقصود
الحالة الصحية لدى رائد ليست أفضل من حالة الكثير من الأسرى، حيث أخبر عائلته في أكثر من زيارة أنه يعاني من عدة آلام في جسده نتيجة التعذيب القاسي والظروف السيئة لاعتقاله، وكان يشكو دائماً من الإهمال الطبي المتعمد بحقه خاصة خلال تواجده في العزل الانفرادي.
أما ظروف استشهاده الغامضة فتفتح ملف أسرى العزل الذين يعانون أصلاً من أمراض تذيقهم المر في كل ساعة، ومثال ذلك الأسير القائد يحيى السنوار الذي يشكو من عدة أمراض في عزله دون الاكتراث بحالته أو تقديم العلاج له، كما يتخوف أهالي أسرى العزل على حياة أبنائهم في ظل الأكاذيب التي يروجها الاحتلال حول استشهاد رائد.
ويوضح محمد أن إدارة السجون لم تتصل بهم حتى الآن لتبلغهم باستشهاد شقيقه، مؤكداً أن العائلة تصر على وجود طبيب شرعي فقط لفحص جسد الشهيد ومعرفة سبب استشهاده وظروف أسره.
ويختتم:" نحن نحمل بالطبع كل المسؤولية للاحتلال بتعمد الإهمال الطبي بحق رائد وربما الاعتداء عليه الأمر الذي أدى إلى استشهاده.. رحمه الله ونحن فخورون به وبما قام به".
الأسرى المقدسيون في واجهة الظلم
ويفتح استشهاد رائد أيضاً ملف الأسرى المقدسيين في سجون الاحتلال، حيث يتجاوز عددهم ال300 بينهم أربع أسيرات، ويعانون من سياسات ظالمة بحقهم أبرزها فصلهم عن أسرى الضفة المحتلة وقطاع غزة ودمجهم مع أسرى الجولان والداخل المحتل، وكأن الاحتلال يحاول أن يوصل لهم رسالة لسلخهم عن قدسيتهم وهويتهم الفلسطينية.
ومن بين أولئك الأسرى ما يقارب 75 محكوما بالسجن مدى الحياة، و35 آخرون تتراوح أحكامهم ما بين 20-30 عاما, بينهم أسرى طاعنون في السن كما الأسير محمود دعاجنة (62 عاما) والمحكوم بالسجن المؤبد أمضى منها 18 عاما تاركا خلفه أولاده العشرة وهو يعاني المرض.
ويقبع العدد الأكبر من أسرى القدس في سجن جلبوع الذي تضم قضبانه 170 أسيرا مقدسيا في قسمي (1) و(4) مع أسرى الداخل والجولان، ويتوزع البقية على سجون نفحة ورامون والنقب وبئر السبع وقليل منهم في مجدو وعسقلان وشطة.
ولزيادة الظلم بحقهم يرفض الاحتلال إدراج أسماء الأسرى المقدسيين في أي صفقة للتبادل أو الإفراج تحت مسمى حسن النوايا، كما يعتقلهم في ظل ظروف صعبة ويتعمد إذلالهم.
أما شهداء الحركة المقدسية الأسيرة فأربعة عشر منذ عام 1967 تسجل ثنايا الأيام "رائد" الأخير منهم حتى الآن، وكان بينهم الشهيد محمد أبو عدوان الذي استشهد أمام جنود الاحتلال دون أن يرأفوا به ويقدموا له العلاج المناسب، والشهيد جمعة كيالة الذي توفي قبل عامين وهو يحمل على جسده آثار حروق وعلامات تعذيب تدين الاحتلال في قتله.
ولا تتردد إدارة السجون في تعمد الإهمال الطبي بحقهم حتى وصل عدد الأسرى المرضى منهم إلى 37 بينهم عشرون يعانون من أمراض خطيرة وترفض إدارة السجون الالتفات لهم.