لم تترك تفاصيل 126 عاما هي عمر المعمر الفلسطيني الأكبر "رجب محمد التوم"، قيد أنملة من جسده النحيل، إلا وطبعت على تجاعيده قصصا وحكايات ترويها ذاكرته التي يحتفظ فيها بكل لحظة عاشها من عمره المديد.
وُلد حين كانت فلسطين ترزح تحت حكم الإمبراطورية العثمانية، فبدأ حياته عسكريا في الجيش العثماني برتبة "شاويش" إبان الحرب العالمية الأولى، والتي انتهت بتفكك تلك الامبراطورية وانسحاب "الأتراك" من فلسطين عام 1918، أي ما يوازي الثلاثينيات من عمر "التوم".
وقبل البدء في خوض الحديث مع المسن الذي ما زال يحتفظ بحاسة سمعٍ عالية، سألناه عن سبب تسمية عائلته بهذا الاسم، فكان الجواب أن جدته "قرنفلة" أنجبت 12 ولداً كلهم توائم.
يبلغ عدد أبنائه وأحفاده اليوم ما يقارب 370 فردًا، فيما لا يزال يتذكر تاريخ ميلاده في شهر يناير من عام 1889، ويقطن في منزل أصغر أبنائه في حي "التوام" على مدخل غرب بلدة بيت لاهيا شمال القطاع، ممارسا حياةً طبيعية تقريبا، عدا عن صعوبة الحركة والتنقل إلا بمساعدة عشرات الأحفاد.
يروي التوم لـ"" قصة حصوله على رتبة شاويش في الجيش العثماني قائلا: "الشاويش الشامي الذي كان مسؤولا عنا ونحن جنود، أمر زميلا لي برفع حملٍ ثقيل يحتاج رفعه إلى ثلاثة رجال، ولما عجز عن ذلك أقدم الشاويش على إهانته وتحقيره، فغضبتُ وبطشتُ بالشاويش ضرباً نصرة لزميلي، رغم علمي بأن عقوبة من يضرب شاويشه الإعدام".
ويُكمل "تم التحقيق معي، وعندما تأكد المسؤول التركي من صدق روايتي، ألبسني رتبة الشاويش مباشرة، ونزعها من الشاويش الظالم".
بعد تفكك الامبراطورية العثمانية، انطلق "التوم" للبحث عن عائلته، إلى أن اجتمع بهم في محافظة الكرك جنوبي الأردن، قبل أن يرجع معهم إلى غزة ليتزوج من زوجته الأولى التي طلقها بعد خمسة أعوام لعدم انجابها.
المسن "التوم"، والذي شهد 5 حقب من تاريخ فلسطين، ابتداءً بعهد الدولة العثمانية، ومروراً بالانتداب البريطاني، والحكم المصري والاحتلال الإسرائيلي، وختاما بعهد السلطة الفلسطينية، لم يتردد حين سئل عن أفضل تلك الأزمنة بالقول: "الأتراك هم الأفضل، ويا ريت نرجع لأيامهم".
ولا يتأخر المسن "التوم" في الاجابة على أي سؤال يوجه إليه، فذاكرته "الحديدية" تسعفه دائما في إيجاد الإجابات الدقيقة، بل إنه ووفقا لنجله الأصغر "كمال"، والذي قارب عمره على الستين، بات مرجعا لمعرفة أنساب العائلات، فكثيراً ما يقصده فلسطينيون لمعرفة أنسابهم وأصول عائلاتهم من أجل قضايا تتعلق بالمواريث.
خلال عهد الانتداب البريطاني، تزوج "التوم" من زوجته الثانية، والتي أنجبت له خمسا من الذكور وأربعا من الإناث، يتبقى منهم على قيد الحياة اليوم ابنة وأربعة أبناء.
استمر التوم في عمله كمزارع، يحصد محصول أرضه التي اشتراها في مدينة بئر السبع في النقب جنوب فلسطين، ليبيعه في غزة، حتى دخول الحكم المصري وقيام دولة الاحتلال على أراضٍ فلسطينية عام 1948، فيما يُعرف بـ"النكبة".
وخضع قطاع غزة في أعقاب نكبة فلسطين عام 1948 للحكم المصري، حتى بداية يونيو 1967، حيث احتلته (إسرائيل) التي هزمت الجيوش العربية خلال ما يعرف بـ"النكسة".
حول تلك الفترة يقول "التوم": "أول النكبة هاجر كل شعبنا وما كان معهم سلاح، اجوا علينا على غزة، وكلهم ثقة بأنهم راجعين بعد يومين ومعهم مفاتيح بيوتهم وأغراضهم، وسكنوا غزة بدون مقابل وكانوا يرجعوا يسقوا أراضيهم في بلادهم".
يوضح التوم حينها أن المهاجرين إلى غزة، كانوا كثيرا ما يتعرضون لإطلاق نار من قوات الاحتلال الإسرائيلي حين ذهابهم لسقاية أراضيهم المزروعة، علاوة على قيام جنود الاحتلال بوضع ألغام أسفل جثة من يُستشهد من الفلسطينيين، ليحصد أرواح أقاربه أيضا حين اقترابهم لانتشال جثمانه.
ويقول: "استدرك اللاجئون هذه الخطة وبدأوا بسحب أقاربهم عن طريق حبل من بعيد للتأكد من عدم وجود ألغام تحتهم، وبعدها كانوا يحملونهم على الأكتاف من بلادهم عائدين إلى غزة".
ويستذكر المسن "التوم" استقبال أهالي غزة لعشرات العائلات التي هاجرت إليهم، موضحًا أنه احتضن عائلاتٍ نزحت من "المجدل" و"بئر السبع" و"بيت دراس" فترة من الزمن، قبل أن تُنشئ وكالة الغوث خيمًا لإيوائهم وإطعامهم.
إلى ذلك، أعادت (إسرائيل) نشر قواتها في غزة عام 1994، حيث انسحبت من داخل المدن، مبقية سيطرتها على حدوده ومعابره، في أعقاب توقيع اتفاقية أوسلو للسلام مع منظمة التحرير الفلسطينية، حيث تم تأسيس السلطة بقيادة حركة "فتح".
وقُدّر للمسن التوم أن يعيش الحروب الثلاثة التي تعرض لها قطاع غزة خلال السنوات الثمانية الأخيرة، بدءاً بحرب الفرقان، وانتهاءً بمعركة العصف المأكول، والتي شكلت خطرًا على حياته نتيجة لكبر سنه وعدم تحمله لأصوات الانفجارات الضخمة التي كانت تهز أرجاء القطاع في كل حين.
وحول تلك الفترة يقول نجله كمال: "خلال الحروب الثلاثة الأخيرة، كنا حريصين جدا على حياة الحاج وتأمينه، وكثيرا ما تم حقنه بإبرٍ مهدئة، علاوة على عرضه للفحص الدوري على يد اثنين من أحفاده الأطباء".
وحين سئل نجله الأكبر حول صحة والده المسن، تذكر قول أحد أطباء مجمع الشفاء الطبي حين عُرض الحاج "التوم" للفحص اللازم قبل إجراء عملية جراحية له لإزالة "حصوة" من كليته: "دقات قلبه أقوى من دقات قلبي".
وعن عاداته الغذائية يتناول المسن "التوم" "زيت الزيتون والخبز والحليب والفواكه والخضار"، علاوة على تناوله للحم الأرانب على الغداء بشكل شبه يومي، متجنبا اللحوم الحمراء.
ويفتخر "التوم" بأبنائه وأحفاده، قائلاً: "أسعد أوقات حياتي لما أجتمع مع أحفادي، وأحكيلهم حكاياتي"، فيما يبادله أبناؤه وأحفاده هذا الشعور، متسابقين لخدمته بأي طريقة.
وبحسب "التوم"، فإنه يقضى يومه في الصلاة والاستماع إلى القرآن الكريم، ونشرات الأخبار، موضحا أن حزنا شديدًا يصيبه عندما يستمع إلى أخبار تتحدث عن قتلى في أي من الدول العربية.
ويأمل "التوم" كغيره من الفلسطينيين، أن تتحسن الأحوال ويزول الاحتلال الإسرائيلي من أراضيهم، حتى ننعم بخيراتها وبمساحاتها الواسعة والخضراء كاملة دون أي تضييق.
ويختتم حديثه بالقول: "أجمل تاريخ حياتي حين كانت البلدان العربية مفتوحة على بعضها البعض دون حدود أو سدود، والسفر لأي منها لا يحتاج إلى هوية أو جواز سفر"، مستذكرا أنه ذهب في العهد العثماني من غزة إلى القاهرة مشيا على الأقدام.