تتحرك جفون محمد الهبيل صاحب الأعوام الثمانية ببطء وهو ينظر إلى أفق منزله الذي لا يتجاوز الـ 10 أمتار، علّه يجد في زواياه ملامح المستقبل الذي ينتظره بعد فقدانه القدرة على السمع بأذنه اليمنى.
جدار البيت أضحى أعز الأصدقاء للطفل محمد بعدما ضاقت عليه الدنيا لمعايرة أطفال الحي له بعيب خلقي في أذنه، وازداد هذا العيب تشوها بعد جولات السفر التي تتجاوز سنوات عمر مُحمد، قضاها الأهل بعلاج ابنهم ذهاباً وإياباً في مصر، وتارة أخرى يقضي جولات العلاج في مستشفى المقاصد في القدس المحتلة.
عندما وصلت لترى حالة الطفل، استقبلها رب الأسرة المتعطل عن العمل بسبب مرض الصرع الأكبر، وأوضح أن ابنه يعاني عيباً خلقياً في أذنه كما لا يستطيع السمع بها جيداً، فذهب إلى مصر 5 مرات وفي كل جولة تجرى له عملية جديدة وحتى اللحظة لم يمتثل للشفاء.
بعد عامين ونصف على ولادة مُحمّد، توجه الأهل إلى مستشفى الشفاء لعلاج صغيرهم، فجرى تحويلهم إلى جمهورية مصر لإجراء أولى العمليات.
" وصلنا إلى أحد المستشفيات في مصر، فرفضوا علاجه لصغر عمره، وأكدوا أنّه لا يتحمل إجراء العمليات"، تقول أمّ محمد، وتوضح أنّ الأطباء طلبوا منها العودة بعدما يتجاوز طفلهم الـ(5 سنوات).
وفي منتصف عام (2011)، أجريت أولى العمليات بمستشفى مصري، تمثلت بـ" فتحة في الأذن اليمنى، بسبب ضيق في قناة الأذن الخارجية"، وطلب الأطباء عودته للمتابعة بعد عام من خروجه المشفى.
وبعد 4 أشهر من اجرائها، باءت العملية بـ"الفشل"، تقول والدته "أغلقت الفتحة من جديد، وأعادت وزارة الصحة تحويله إلى مصر مرة أخرى".
مدّت أمّه أحد تقارير العملية، وبدت تتلو ما خطّه الطبيب على الورق " ضمور بالأذن اليمنى، وقد تم عمل رقعة غضروفية من الصدر لإعادة هيكلية الأذن".
أبدت أم محمد حسرتها واحتضنت طفلها، وتابعت حديثها " لم تنجح العملية وبعد أيام أخذوا رقعة جلدية من الفخذ الأيمن"، وطلب الطبيب المشرف على حالة الصغير عودته إلى غزة، ومن ثم المراجعة بعد نصف عام.
سافرت العائلة بعد أشهرٍ للمراجعة، وأشرف على الحالة طبيب آخر، وما إن وصلوا وكشفوا عن حالة الصغير حتى أخبرهم الطبيب أنّ "لديه خطأ طبي، ويجب إعادة العملية من جديد".
أجرى الطبيب عملية رفع خلالها غضروف الأذن اليمنى، وأعاد بناء الأذن، ثم أخذ رقعة جديدة من الفخذ الأيمن، ولكنّه أعاد الكرة مرة أخرى، وأعيدت العملية من جديد، وعقّب الطبيب بالقول "جلد ابنكم لا يتحمّل وهذا سبب فشل العملية".
أصبحت أذن الطفل الذي لم يبلغ وقتئذ 6 سنوات عبارة عن " حقل تجارب" -على حد تعبير الأم، فاضطرت لمراجعة أحد الأطباء المختصين في مستشفى الشفاء بغزة، وقررت إدارة المشفى تحويل الصغير إلى مستشفى جمعية المقاصد الخيرية في القدس.
"وصلنا المقاصد، وأخبرنا الدكتور أنّ حجم الأذن كبيرة جدًا بالنسبة للجلد، وذلك يؤثر على الدماغ" وتشير الأم إلى أنّ الطبيب طلب تخفيف الجلد من الأذن وإعادة الحالة لمكان سكناها في القطاع.
وفور وصول الأم وصغيرها إلى غزة، أصيب الطفل الأخير بالتهاباتٍ شديدة، وصديدٍ بالأذن، وتم نقله إلى مستشفى الشفاء، "ولكنّ الأطباء تخوفوا من تأثيرات العلاج على الكبد فحولوه مرة أخرى إلى المقاصد في منتصف (2014)".
أعادوا رحلة العناء من جديد، ووصلوا إلى مستشفى المقاصد، وتمّ تعقيم الأذن وتنظيفها، ثم طلبوا من الأم وابنها العودة إلى غزة.. وعادوا.
تطوّرت حالة الصغير بعد أشهرٍ معدودات، وتمّ تحويله من جديد إلى أحد مستشفيات مصر، وزرعوا للصغير جهازًا يسمى "ممدد للأنسجة".
تهيّأت الأم وطفلها للعودة إلى القطاع، متمنين أن تكون نهاية العذاب، " لكنّ بعد 24 ساعة أصبح وجه محمد شديد التورّم". تقول الأم.
أسرعت العائلة للطبيب؛ متخوفة على حياة ابنها، وبعد الفحوصات "تبيّن أنّ في أذن الطفل جسم غريب، فأعادوا له العملية في مصر من جديد، ورفعوا من رأسه 3 ملم لحم تالف، وجميع ما زُرع سابقًا وجدوه بلا فائدة -الغضروف، والجلد-، فأزالوه جميعًا.
تدمع عيناها وتُداري بيدها دمعتها، ثم تتنهد قائلة " طلعوا ناسيين براسه قطعة من البلاستك".
مُعاناة محمد صاحب الـ(8 أعوام)، استمرت في حلقة متواصلة من المقاصد إلى مستشفيات مصر، دونما علاجٍ له، وعند آخر طبيبٍ، أزال جميع معالم الأذن اليمنى.
ذهبت الأم مسرعة بضع خطوات لجلب وثائق العمليات " التي أجراها صغيرها محمد وفور وصولها قالت بصوت يكسوه الألم " لمتى راح يظل ابني هيك، هو حقل تجارب؟".
العائلة تأمل أن تنتهي مأساة ابنهم بسفره إلى الداخل المحتل لإجراء العملية العاشرة، علّها تُعيد له معالم وجهه البريء وتكون الأخيرة، فهل تتحقق أماني الأم وصغيرها الوحيد، أم تُعاد مشاهد المأساة للظهور من جديد؟.