دُخان.. يُخرج أوراقَ "مرج الزهور" من صندوق ذكرياته

الشيخ عبد الفتاح دخان
الشيخ عبد الفتاح دخان

الرسالة نت- محمد أبو زايدة

الجزء الثاني

ما زال الشيخ عبد الفتاح دخان متمسكًا بذاكرته الحديدية التي حفظ بها تفاصيل تعود لعشرات العقود. كنّا قد تحدثنا - الحلقة الماضية- عن ولادته في بلدة عراق سويدان، وهجرته إلى مخيم المغازي، وبداياته مع الاخوان المسلمين، وسبب انضمامه للجماعة، وفترة الحكم والجبروت المصري، وتجفيف منابع الاخوان في فلسطين، مرورًا بالمخابرات وطرق استدعائها للمطلوبين بطريقة " ساذجة"، وصولًا للحكم (الإسرائيلي).

وفي حلقة اليوم سنستأذن من ذاكرة الشيخ، ليحدثنا عن الابعاد إلى مرج الزهور، وعهد السلطة، ومن ثم دخول الحركة في معترك السياسة، وفوزها في الانتخابات التشريعية.

وبعد عشر شهورٍ من انطلاق الانتفاضة الأولى، بالسابع عشر من سبتمبر عام 1988، اعتقلت سلطات الاحتلال (الإسرائيلي) ضيفنا، واقتادته إلى منطقة تُسمى "المسلخ"، نسبة لما يلقاه المسجون على أيديهم، وحُكم عليه بالسجن لـ(22 شهرًا) قضى منها (15 شهرًا) بالسرايا، و(7 أشهر) بالنقب.

 عذاب

" 30 يوما قضيتها في التحقيق بالمسلخ، ومكثت 6 أيامٍ متواصلة على الكرسي معصوب العينين، ومكبّل اليدين، وإن أغمضت جفني لأنام بعض الوقت، يضرب العسكري على رأسي أو يسكب الماء في ظهري". يقول دُخان، موضحًا أنّ بعد 6 أيامٍ من الجلوس للتحقيق، منّوا عليه بليلةً واحدة ليرتاح في زنزانته التي لا تكفي لآهاته بعد التعذيب.

استمر لشهرٍ كامل في أروقة التعذيب بالمسلخ، يُعاني الأمرين، وبعدها جرى نقله من زنزانته إلى زنزانة أكبر مساحة ببضعة أمتار.

"هات بطانياتك على ظهرك وتعال". جملة قالها العسكري (الإسرائيلي) لشيخنا، ولبّى الأخير النداء، وما إن وصل الزنزانة حتى استقبله قياداتٌ من الحركة أبرزهم الشيخ محمد حسن شمعة -أحد قيادات حماس-، والشهيد صلاح شحادة - القائد العام لكتائب الشهيد عز الدين القسام، وبدأوا يشدون من معنوياته بقولهم له" السجن للرجال أبا أسامة - كنية ضيفنا-، بينما كان الدكتور عبد العزيز الرنتيسي مسجونًا في زنزانة مجاورة، ويستمع للحديث ويشاركهم عن بُعد.

 مرج الزهور

ويعود بذاكرته إلى لحظة الابعاد لمرج الزهور، يقول "اعتقلت سلطات الاحتلال 416 من قيادات حماس والجهاد الإسلامي، واقتادتهم إلى سجونها عام 1992، ثم اقتادتهم إلى باصات نقل الأسرى، وظننا أننا ذاهبون إلى سجن النقب الصحراوي".

تفاجأ الشيخ محمد شمعة من وجود ضابط (إسرائيلي) يضع في جيب كل من في الباص الذي يصعد بداخله (50 دولارًا)، ووفقًا لمعلوماتٍ سابقة وصلته من أحد المبعدين، تأكد أنّهم مبعدون إلى خارج فلسطين.

36 ساعة هي المدة الزمنية التي استغرقها المبعدون وهم مكبلين الأيدي ومعصومين الأعين، وممنوعين من قضاء حاجتهم، إلى أن أوصلتهم السلطات (الإسرائيلية) إلى منطقة تتبع لأحد عملائها تسمى (لحد)، ثم أحضروا سيارات شحن، وحملوا المبعدين وسارت الشاحنات إلى لبنان.

"قابلنا الجيش اللبناني وسألنا عن طريق سيرنا، فأخبرناه بعدم معرفتنا، لذا منعنا من دخول الأراضي اللبنانية". يقول دخان.

 ويتابع بعدما أعدل جلسته "هذه كانت مثل ابرة انعاش لنا، دفعتنا لأن نشكر الضابط على وقفته مع قضيتنا وعدم قبوله بقرار الابعاد".

نزل المبعدون من سيارات الشحن وبدأوا بالسير على أقدامهم، ومن قول حديث الرسول "إن كنتم اثنين فأمّروا عليكم ثالثًا". طلب المبعدون بأن يتولى عبد الفتاح دخان مسؤولية المبعدين، ويكون أميرًا عليهم.

يحرك أنامله التي رسمت تجاعيد الكبر، على عكازه وهو ساند بظهره على الكرسي، " وافقت على ذلك بعدما أخذت عهدًا بطاعة المبعدين للقيادة".

وصلوا إلى منطقة لا تخضع للدولة اللبنانية أو (إسرائيل)، وهي متعارف عليها باسم "المنطقة الحرام"، فأمرهم بالنزول بمكانٍ تتواجد به المياه، فنزلوا بالقرب من أحد الشلالات وباتوا به أيامًا. ويشير دخان إلى أنّ تلك الأحداث كانت بشهر ديسمبر.

كانت أوّل خطبة في مرج الزهور للدكتور عبد العزيز الرنتيسي، حيث صلّى المبعدون على الأسفلت، تحت زخات أمطار ديسمبر، ودرجة الحرارة تقترب من التجمد (تحت الصفر)، وما إن انتهوا حتى وصلهم المدد من حزب جنبلاط اللبناني، ووزعوا على كل مبعد قطعة جبنٍ وخيارة ورغيف خبز. وفي عصر ذلك اليوم أحضرت الحركة الإسلامية في لبنان الخيام لتأوي المبعدين.

 إصرار على العودة

"شكلنا هيئة إدارية مكونة من ثلاثة من الضفة، وثلاثة من غزة، ثم مجلس شورى لبحث آلية العودة لفلسطين"، يقول دخان، ويلفت إلى أنّ سبب تسمية المخيم بمرج الزهور، لقربه من هذه القرية اللبنانية "السنية"، والتي لا تبعد سوى 2 كم عن مكان المبعدين.

بدأ الإعلام العالمي بالتهافت على مخيم مرج الزهور من طلوع الشمس حتى المغيب. يتابع دخان "جرى اختيار عبد العزيز الرنتيسي ناطقًا بلسان المبعدين عربيًا، وعبد العزيز دويك للغة الانجليزية، لأنّه عاش بأمريكا ثماني سنوات، وكان خطيبًا في أحد مساجدها".

كسب المبعدون تضامنًا عالميًا، لا سيما بعدما فتحت قناة (CNN)  موجة أسئلة من بعد صلاة عشاء أحد الأيام حتى الفجر، يستفسر خلالها الأمريكان عن المبعدين وحركة حماس، وكان الدكتور دويك هو المجيب على استفساراتهم.

وحاول المبعدون بحسب دخان إشغال أنفسهم بأشياء مفيدة كدورات تجويد القرآن وتلاوته، وتعليم اللغة العربية وقواعدها، إضافة إلى اللغة الانجليزية والاسبانية، ودورات في تمديد الكهرباء والتبليط".

ويتذكر دخان إحدى المغامرات التي خاضها المبعدون في مرج الزهور، بنبرة تنبض بالحماسة يقول" في إحدى الليالي اشترينا قماشًا أبيضًا، وفصلنا أكفانًا لجميع المبعدين، وارتديناها في الصباح ونظمنا مسيرة "الأكفان"، وتوجهنا إلى الحدود مع الاحتلال، وهتفنا بأحقيتنا في الأرض، ووجوب عودتنا حتى لو كلفنا ذلك الموت".

أطلقت مدفعية الاحتلال قذائفها بمحيط المسيرة، وفتحت رشاشاتها على المبعدين، حتى أصيب بعضهم، ويقول دخان " كانت الفضائيات تغطي الفعالية بشكلٍ مباشر، وأثر ذلك في العالم العربي والإسلامي، ما شكل ضغطًا على الاحتلال بوجوب عودة المبعدين".

بعد تسعة أشهر من الابعاد، قرر الاحتلال إعادة نصف المبعدين إلى ديارهم، شريطة أن يلحق الباقين بعد ثلاثة شهور.

وفي نهاية عام 1993عاد مائتا مبعد إلى ديارهم، بعد أن اتجه المبعدون إلى النقب لإتمام الاجراءات، وفي داخل السجن، احتجز الاحتلال الشيخ دخان، والشيخ محمد شمعة، وحكم عليهما بالسجن (6 أشهر)، بتهمة قيادة مبعدي مرج الزهور.

"حُكم علينا بالسجن 6 شهور، لكنه تم استئناف الحكم وتخفيفه 3 شهور بسبب مرضنا". يقول دخان، ويشير إلى أنه كان يعاني من قرحةٍ في الاثنا عشر، وتبين ذلك بعد تحويله إلى مستشفى "برزلاي" في (إسرائيل).

عذابات السلطة

وفي ذات العام، وصلت السلطة الفلسطينية إلى غزة، واستبشرت قيادة "حماس" بها خيرًا، إلّا أنّ توقعاتهم باءت بالفشل، فسرعان ما انكشفت لهم نوايا السلطة وأفعال أجهزتها.

"أضحت السلطة تعتقل كل من له علاقة بحماس، ومن يطيل اللحى ينكلوا به وينتفوها له"، بحسب دخان.

يكمل حديثه عن لحظة اعتقاله، "عام 1996، حضر ضابط إلى البيت، وأخبرني أن مدير مخابرات السلطة في دير البلح يرغب بـ(شرب فنجان قهوة معك)، فرافقته إلى مقرهم".

وصل ضيفنا إلى مقر المخابرات بمدينة دير البلح، واستمر شرب "فنجان القهوة" يومين بلا أي سؤال، وبعد هذه المدة وهو جالسٌ في ذات الغرفة، أنزلوه في زنزانة مساحتها مترين مربع، وبعد بضعة أيام، طلبوا نقله إلى مقرٍ آخر، دون أي تهمةٍ أو فتح تحقيق، أو حتى "شرب فنجان القهوة المزعوم".

"نقلوني إلى أحد مقرات مخابرات السلطة في رفح جنوب القطاع، وبدأوا تحقيقًا معي عن صلتي بحماس" يقول ضيفنا، حتى انتهى التحقيق، وحضر بعدها عسكريان كبلاه بالسلاسل وألقوه داخل إحدى الزنازين.

أخرجوه بعد حجز استمر 24 ساعة، واقتادوه إلى مدير المخابرات المكنّى بأبو خالد، فما إن رآه دُخان حتى ثار في وجهه قائلًا "أنت تخلو من القيم الانسانية، فلم تحترم كبر السن، ولا العلم، ولا الإنسانية". فردّ عليه بالقول "بأشوفك شرس".

ثم أنزلوه إلى الزنزانة مرة أخرى، وأخبروه أنّهم غير مسؤولين عن شرابه وطعامه، وطلبوا منه أن يهاتف أهله ليحضروا له ما يسد جوعه، وبقي في زنزانته شهرًا كاملًا دون أن "يستحم"، وعندما قرر ابنه (بلال) أن يؤدي فريضة الحج، طلب لقاءه، لكنّ أجهزة المخابرات رفضت ذلك، ليفرج عنه بعده أيام من التعذيب داخل سجون السلطة.

 الصلح خير

بعد أيام من الإفراج عن دُخان، أرسل كتابًا لياسر عرفات رئيس السلطة آنذاك -أبو عمار-، يطلب فيه لقاءه لإنهاء الخلافات بين حماس والسلطة، و"عودة المياه لمجاريها"، وفق قاعدة "الصلح خير".

وصل دُخان برفقة الدكتور محمود الزهار -قيادي في حماس- لأبو عمّار، ودار حوارٌ مكثف، وانتهى اللقاء بوعودات، وطلبوا منه السماح لهم بزيارة الدكتور إبراهيم المقادمة المعتقل لدى جهاز الأمن الوقائي، ووافق على ذلك.

وصل القياديان -دخان، والزهار- إلى زنزانة المقادمة، فوجدوه ملقى على الأرض لا يستطيع السير على قدميه، وعمره آنذاك 43 عامًا، ووزنه "خسّ النص".

أشهر فصلت بين الزيارة والافراج عن المقادمة، حتى رأى الشمس بعد حلقات التعذيب التي تلقاها من أجهزة الأمن الوقائي التابعة للسلطة، واستطاع أن يستعيد عافيته من جديد، وقاد جهاز كتائب القسام الذراع العسكرية لحركة حماس، بعد استشهاد صلاح شحادة، فأصبح مطاردًا من جديد.

تكررت زيارة دُخان والزهار لبيت أبو عمار، لطلب وقف ملاحقة المقادمة، فاجتمعوا ثلاثتهم في بيت محمد دحلان، بحضور الدكتور زكريا الأغا، ورشيد أبو شباك، وأفضى الاجتماع بأن يشرب المقادمة (فنجان قهوة) لدى غازي الجبالي، ويعود لبيته بعد رفعه من قوائم المطاردة، ليصبح بعدها مطاردا لقوات الاحتلال إلى ان اغتالته مع ثلاثة من مرافقيه في الثامن من مارس 2003.

 التشريعي.. لا بد منه

يقول دخان، قررنا دخول الانتخابات بعد أن وصلت القضية للحضيض بفعل السلطة.

قررت حماس دخول الانتخابات عام 2006 بكتلة "التغيير والإصلاح"، ويضيف: دخلنا التشريعي، وفزنا بأغلبية في انتخابات شهد العالم على نزاهتها".

وللخروج عن جوّ السياسة وهمومها، انتقلنا مع ضيفنا للحديث عن عائلته وأفراد أسرته التي تبلغ (21 فردًا -9 اناث، و12 ذكور)، استشهد منهم طارق وزيد.

ويقول" ابني طارق كان مطاردًا من الاحتلال، وهو ينتمي لكتائب القسام، وبعد سنواتٍ من المطاردة، قرر السفر إلى مصر، لأنّ الاحتلال كان يعتقل أهل المطاردين، فخشي على عائلته، وأثناء سفره غُدر به عن طريق (دليل طرق)، كان ينتمي للموساد (الإسرائيلي)، فاعتقله الاحتلال، وحاول الدفاع عن نفسه حتى استشهد أثناء مقاومته".

أمّا عن ابنه محمد، فقد حكم عليه الاحتلال بما يقرب من (4 مؤبدات)، لكنّه خرج من ظلمة السجن عام (2011) على ضوء صفقة الجندي (الإسرائيلي) جلعاد شاليط، والتي نفذتها كتائب القسام تحت اسم "وفاء الأحرار"، خرج جرائها (1027) أسيراً فلسطينياً .

وبابتسامة الأب المُربي يقول دخان، "جميع أبنائي درسوا بمدرستي التي كنت مديرها لـ36عامًا، وتخرجوا على يدي، وأصبحوا جميعهم بين متعلم واستشهادي".

لقراءة الجزء الأول اضغط هنا

البث المباشر