قائمة الموقع

"مجزرة رفح".. الحكاية المفقودة

2015-07-30T06:22:48+03:00
طاقم الاسعاف يخلي بعض الجرحى
الرسالة نت - محمود فودة

لم تغب مشاهد أشلاء الأطفال والنساء المتناثرة في منطقة حي التنور شرق مدينة رفح عن ذاكرة الحاج راتب البلبيسي، بعد أن حوّل منزله الواقع في دائرة القصف لمستشفى ميداني؛ رغم خطر الموت المحدق به وبأهله.

تعرضت رفح صبيحة أول أيام أغسطس الماضي خلال العدوان الإسرائيلي على غزة، لقصف عشوائي بمئات القذائف، عدا عن قصف الطيران الحربي لعدد من المنازل دون سابق إنذار، ليسقط عشرات الشهداء ومئات الاصابات في غضون ساعات بعد إعلان الاحتلال فقده أحد ضباطه شرق المدينة.

ويحدثنا الحاج راتب عن تفاصيل ما جرى صباح "الجمعة السوداء" كما يصفه أهل المدينة، بأن مئات المواطنين القاطنين شرق المدينة والذين لجأوا إلى مراكز الإيواء؛ بسبب القصف العشوائي طيلة الأيام السابقة، عادوا لمنازلهم مجددا؛ مع بدء سريان التهدئة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الاسرائيلي.

ما أن وصل المواطنون لمنازلهم بعد أيام طويلة من تعب السكن في مراكز الإيواء، حتى وصلت إلى أسماعهم أصوات إطلاق نار وانفجارات متتالية، ومع مرور الدقائق بدأت تزداد حدة أصوات القذائف، إلى أن اتسعت دائرة القصف لتشمل كل المنطقة الشرقية.

وبناءً على ما سبق، أصبح 50,000 مواطن تحت نار القصف العشوائي، الذي طال المنازل والمساجد والشوارع، وكذلك مستشفى محمد يوسف النجار وهو الوحيد في المدينة، ليبدأ عداد الشهداء بالحساب بدأ بعدة إصابات، ليصل خلال ساعة واحدة من القصف إلى 60 شهيدا و150 إصابة وفق المصادر الطبية.

وبحسب رواية البلبيسي فإنه برغم العدد المهول للشهداء والجرحى، لم تصل أي سيارة إسعاف للمكان، فالشهداء تكوموا فوق بعضهم البعض وعليهم ركام المنزل، أما المصابون فمنهم من استطاع الهرب بمساعدة آخرين، ومنهم من بقي ينزف حتى الموت.

جثث الشهداء بقيت في شارع البلبيسي ومناطق أخرى من صباح يوم الجمعة وحتى يومي الاحد والاثنين، فيحدثنا أحد المواطنين القاطنين في تلك المنطقة، أنه نقل عبر كارة يشدها حصان 30 جثة حتى اوصلها إلى مكان آمن تمكنت سيارات الاسعاف من الوصول إليه.

وفي رواية موت أخرى، يقول المواطن محمد أبو جزر أنه رأى طفلين قطع جسداهما لنصفين فيما تقطعت أحشاء أمهما بعد أن قصفتهم طائرة بدون طيار بصاروخين في أحد شوارع حي التنور خلال محاولتهم الهروب من منزلهم الذي تعرض للقصف العشوائي.

رواية الاحتلال زعمت أن كتائب القسام الجناح العسكري لحماس تصدت لوحدة اسرائيلية متوغلة شرق المدينة بعد سريان وقت التهدئة، وتمثلت الخسائر بمقتل جنديين والأهم من ذلك أن فقد آثار ضابط يدعي هدار جولدن.

أما رواية القسام فقد أكدت أن الاشتباك وقع قبل بدء سريان التهدئة، وأن أفراد الوحدة اشتبكوا مع القوة المتوغلة شرق المدينة، إلا أنها في ذلك الحين وعند إصدارها البيان أكدت أنها فقدت الاتصال بالمجموعة الآسرة؛ مما أراح العدو قليلا وشكلت له هذه الرواية حجةً كافية أمام جمهوره أنه فعل ما يمكن فعله.

إبراهيم أبو سنيمة "48 عاما" حوصر وعائلته المكونة من 8 أفراد في منزلهم الواقع في منطقة زلاطة، فلم يتمكن من مغادرة المنزل مع بدء القصف؛ لعدم توافر مركبة تنقله وعائلته، وصدمة القصف أفقدته التفكير في طرق الهروب من الموت.

ما أن تجهزت العائلة للهروب، حتى سقطت إحدى القذائف في حديقة المنزل، لتعم الفوضى بين أفرادها، وبدون تفكير فتحوا باب المنزل للهروب، فكانت القذيفة الثانية في انتظارهم على حافة الشارع، ليعودوا مجددا للمنزل ويبقوا فيه إلى ان يشاء الله،" إما أن نموت أو يأتي احد ليخرجنا من هنا" تروي زوجة إبراهيم.

فجأة.. انقطعت الاتصالات في أرجاء مدينة رفح، وبذلك لم يستطع أبو سنيمة التواصل مع أي من أقاربه أو الجهات الطبية أو الدفاع المدني كي يخرجوه وعائلته من الموت المحقق.

فريق "الرسالة" تواجد في المستشفى منذ اللحظة الأولى لبدء المجزرة، وتابع مع الفرق الطبية الأحداث الجارية، وكان شاهدا على أحد الاتصالات التي وردت لتليفون المستشفى من عائلة محاصرة تفيد بوجود طفلين مصابين وملقين أسفل شجرة شرق المدينة، ليرد أحد المسعفين: "لا نستطيع الوصول إليهم، الاحتلال يرفض التنسيق، إما أن تحاولوا سحبهم للمنزل أو لهم الله".

وفي ثلاجة الموت حكاية أخرى، بين الدقيقة والأخرى تستقبل جثةً جديدة، دخلناها بعد ساعتين من بدء المجزرة، لنرى الجثث ملقاة فوق بعضها البعض، يقول إبراهيم -أحد العاملين فيها- منذ سنوات طويلة: "والله احسست نفسي في كابوس أو حلم، لم استطع أن اكفن أيا منهم بالطريقة المعهودة، كنت أضع الشهيد في كفنٍ جاهز ومن ثم إلى داخل الثلاجة".

مع ازدياد عدد الشهداء، اضطر إبراهيم وزملاؤه لوضع كل شهيدين في درج واحد من أدراج الثلاجة، إلا أن ذلك لم يفلح أيضا في احتواء الاعداد المتزايدة من الشهداء، ليتجهوا نحو فك أدراج الثلاجة ووضع الشهداء فوق بعضهم البعض.

القصف العشوائي طال المستشفى، لتصاب أروقته بحالة من الهرج والمرج بعد أن حوى في جنباته مئات العائلات التي لجأت إليه؛ لضراوة القصف المدفعي العشوائي، لتزداد صعوبة عمل الطواقم الطبية مع الاصابات الواردة.

تحدثنا لرئيس قسم الاستقبال في المستشفى إياد أبو فودة والذي رأيناه متواجدا منذ بداية المجزرة، إذ يقول مستذكرا الأحداث: "لم يكن موعد دوامي في ذلك اليوم، أول ما سمعت الانفجارات حضرت للمستشفى، يوم لا ينسى استنزفت فيه المستلزمات والطواقم الطبية".

عشرات الإصابات بدأت تصل للمستشفى تباعا، بينما القدرة الاستيعابية لقسم الاستقبال تكفي لـ14 مصابا فقط، مما دعا إلى معالجة المصابين على أرضية المستشفى، واستخدام غرف غير مجهزة، فيما لم تستطع غرفة العمليات الوحيدة فيه من العمل؛ لضراوة القصف.

ويضيف: "كيف يمكن لي أن اتعامل مع مصاب في غرفة العمليات وأن نشق بطنه والقصف محيط بك من كل جانب، لا يعقل ذلك، في أي لحظة من الممكن ان يترك طاقم العمل الغرفة".

صغر حجم المستشفى أدى لعدم وجود إلا سريرين في غرفة العمليات فقط، إلا أن الاصابات الخطيرة كثيرة؛ مما دفع الأطباء إلى تأمين مسار الحياة للمريض ومن ثم نقله لمستشفى آخر، وهذا أيضا كان محفوفا بالمخاطر؛ لعدم وجود تنسيق لتنقل سيارات الاسعاف -وفق أبو فودة-.

وفي قصة إنسانية عاش أجواءها الحكيم أبو فودة، إذ أنه ترك عائلته في دائرة القصف، وفي أول اتصال استطاع فيه الوصول إليهم: "بعد ثوان من بدء الاتصال الذي اجروه معه خلال هروبهم من البيت، تم قصف هدف بجوارهم، وقطع الاتصال حتى ساعات المساء".

رغم حالة التوتر التي سيطرت عليه أكمل عمله، إذ أصبح يكشف عن وجه كل شهيد أو إصابة تأتي للمستشفى علّها تكون لوالدته أو زوجته، أو أشلاءً لأحد أطفاله، إلى أن استطاع التواصل مجددا بعد 9 ساعات وعلم أنهم في مكان آمن، فيما استشهد الأفراد المستهدفون في القصف المجاور خلال رحلة الهروب.

الصليب الأحمر أبلغ إدارة المستشفى بعد ساعتين من بدء المجزرة بضرورة إخلائه فورا، إلا أن ذلك كان صعبا للغاية، في ظل وجود مئات المواطنين داخله، والاصابات التي غصت بها أروقته، ليصبح بذلك أمر الإخلاء ضربا من الخيال.

بعد احتدام القصف اضطرت إدارته للإخلاء، دون أي حماية من الصليب الاحمر أو أي جهة دولية، بل أصبحوا تحت النار وفي أي لحظة معرضين للقصف.

أما المعاقة إيمان خليل والتي لا تقوى على المشي، اضطرت والدتها للجلوس معها في البيت بعد أن غادرت غالبية افراد العائلة المنطقة، إلا أن اشتداد القصف مع ساعات الظهر دفعها للتفكير باللحاق بهم.

وتقول الحاجة أم إيمان: "كل قذيفة كانت بنتي تصرخ، لم يعد هناك في كل الحي أحد غيرنا، حاولت الاتصال برقم الاسعاف إلا أن الهاتف كان معطلا، ألبستها وحاولت المشي في ظل البيوت؛ في محاولة للنجاة من شظايا القذائف".

الحاجة الستينية أخذتنا في جولة في ذات الطريق التي سلكتها خلال رحلة الهروب من البيت، "هنا بنتي ارتمت على الأرض ولم تستطع الحركة، وتبولت في ملابسها من الخوف، صرخت أنا عاليا، إلا أن أحدا لم يجبني".

العالم بأسره شهد بأن ما حصل في رفح "جريمة حرب"، وفي تقرير مشترك من إعداد منظمة العفو الدولية وفريق البحث المعني بمشروع علم العمارة الجنائية، صدر أمس الأربعاء، نُشرت أدلة جديدة تُظهر أن الاحتلال ارتكب جرائم حرب برفح.

اخبار ذات صلة