من عجب، أن بعض فصائل منظمة التحرير قد انتقدت حركة حماس وأخذت تشكك في مواقفها مع تزايد المؤشرات على وجود اتفاق متبلور للتهدئة في قطاع غزة يضمن رفع الحصار وتغيير الواقع الاقتصادي المزري. ولكي تحاول إضفاء صدقية على موقفها، فقد أعلنت بعضها أنها لن تكون ملتزمة باتفاق التهدئة!!.
من حيث المبدأ، من حق هذه الفصائل التعبير عن مواقفها السياسية، وتحديد وجهة خياراتها واصطفافاتها. لكن ما هو غير منطقي، وغير معقول أن تبدي هذه الفصائل هذا القدر الكبير من التناقض في مواقفها.
فبعض الفصائل التي هددت بعدم الالتزام بالتهدئة، لم تقدم على العمل الكثير من الفعل النضالي، عندما شنت (إسرائيل) حربها الطاحنة على قطاع غزة، ولا حاجة للتذكير بأن حركة حماس هي التي تحملت عبء الحرب الكبير، سواءً على صعيد العمليات التي استهدفت الاحتلال وعمقه، أو على صعيد التضحيات الهائلة التي قدمتها الحركة.
لكن أكثر ما يستفز في تناقضات هذه الفصائل حقيقة أنها تدعي رفض التهدئة في غزة، وتستكين في الوقت ذاته في أحضان رئيس السلطة محمود عباس، الذي لا يمنع المقاومة فقط في الضفة الغربية، بل يشن حرباً لا هوادة فيها على المقاومين، ويواصل التعاون الأمني، الذي يفضي إلى تحسين البيئة الأمنية للمستوطنين ويشجع الإرهابيين اليهود على مواصلة المس بالمدنيين الفلسطينيين.
إن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل استمع قادة وممثلو هذه الفصائل بما قاله الجنرال تمير يداعي، قائد قوات الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية مؤخراً؟ حيث جاهر هذا الجنرال الصهيوني بأن (إسرائيل) تراهن بشكل خاص على دور محمود عباس في ضبط الشارع الفلسطيني بما يقلص من فرص تحقق سيناريو انفجار الأوضاع الأمنية، الذي تخشاه تل أبيب.
وقد أشاد يداعي بدور عباس كـ"عامل استقرار" بالنسبة لـ(إسرائيل) وأمنها، متوقعاً أن ينجح عباس في تهدئة الأوضاع.
ومن الواضح أن الجنرال الصهيوني لم يكن له ليتوقع لعباس أن ينجح في مهمته لولا أن هذه الفصائل يمكن أن تشكل تحدياً له، فعباس يمسك بمفتاح صنبور الأموال، وبإمكانه إغلاقه عن أي فصيل يقدم على أي موقف مزعج له.
من هناك لم يكن من المفاجئ أن يؤكد الجنرال يداعي أن التعاون الأمني مع السلطة الفلسطينية يتواصل بشكل ممتاز، ولم يكن من المستهجن أيضاً أن يقول هذا الجنرال إنه يصدق عباس عندما يقول إنه لن يسمح باندلاع انتفاضة ثالثة.
إن هذه الفصائل تعي تماماً أنها مسؤولة عن منح هذا الجنرال كل هذه الثقة لدرجة أن يؤمن بأن عباس يواصل ضمان ثبات العلاقة مع السلطة الفلسطينية "لأنه يقاوم أية محاولة لتغيير الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية".
وقد أعاد الجنرال الصهيوني للأذهان مقولة عباس الشهيرة "التعاون الأمني مع (إسرائيل) مقدس"، متسائلاً:" هل هناك زعيم عربي يمكن أن يجرؤ على قول مثل هذا الكلام".
من هنا، فلم يكن من المستهجن أن تجاهر "ميكور ريشون" الصهيونية اليمينية المتطرفة، باحتفائها بعباس، وتقول إن القرار العملي الوحيد الذي اتخذه عباس في أعقاب قيام المستوطنين بإحراق الرضيع الفلسطيني علي دوابشه هو توجيهاته لأجهزته الأمنية بعدم السماح بتنفيذ عمليات انتقام فلسطينية.
وتخرج هذه الصحيفة عن طورها في الإشادة بقرار عباس بأن تشكل الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة هيئة طوارئ لمنع الشباب الفلسطيني من الرد على جريمة إحراق العائلة.
ومن الواضح أن سر احتفاء الصحيفة اليمينية بقرارات عباس العملية يجب أن يدفع ممثلي الفصائل التي تواصل البقاء في نادي "القيادة الفلسطينية" للشعور بالخجل، بحيث لا تصل بهم الجرأة والصفاقة للمزاودة على الآخرين.
وحتى يشعروا بشئ من الخجل، فإننا نجعل ممثلي هذه الفصائل يواجهون ما كتبته الصحافية اليهودية عميرة هاس بعد إحراق الصهاينة لعائلة دوابشة، حيث قالت في مقال نشرته صحيفة "هارتس" مؤخراً إن قادة (إسرائيل) الذين يكيلون المديح لعباس وسلطته وأجهزتها الأمنية لدورها في حماية المستوطنين وإسهامها في عدم السماح بتنفيذ عمليات ضدهم؛ لا يرون في المقابل أن للسلطة الفلسطينية الحق في إحباط العمليات التي يخطط لها وينفذها المستوطنون ضد أبناء الشعب الفلسطيني.
وتقدم هاس وصفاً دقيقاً لدور الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، الذين يخشى ممثلو الفصائل التطرق لهم، حيث تقول: "(إسرائيل) ترتاح لسلوك قادة الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، والذين ينتمون لحركة "فتح"، لأنهم يختبئون في مكاتبهم عندما تداهم قوات الجيش الإسرائيلي المدن والبلدات والقرى الفلسطينية".
ومن المهم أن نختم هذا المقال، بما ختمت به هاس مقالها، حيث توقعت أن يسفر "الغضب والشعور بالخزي إزاء سلوك السلطة الفلسطينية عن تحولات سياسية فلسطينية بعيدة المدى".
لكن من يعيش بين ترغيب عباس وترهيبه لا يمكن أن يصل حتى للاستنتاجات التي وصلت إليها هاس.