وظف التيار الديني الصهيوني عدة آليات لقطع الطريق على أية محاولة لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي بالوسائل السياسية؛ حيث عمل على السيطرة على أكبر مساحة من الأراضي الفلسطينية والتوسع في بناء المستوطنات عليها حتى لا يتبقى من الأرض الفلسطينية ما يمكن التفاوض عليه عند الشروع في أية مفاوضات.
ولقد استخدم هذا التيار كل الأدوات المتاحة له لطرد الفلسطينيين، من أجل إيجاد بيئة لا تساعد على تسوية الصراع بالوسائل السياسية، مستفيدا من ظروف عدة أسهمت في تمكينه من السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية بغرض إقامة المستوطنات، وقطع الطريق على أية إمكانية للتوصل لتسوية سياسية للصراع. فما هي العوامل التي مكنت هذا التيار من تحقيق مبتغاه؟
نجح المتدينون - لأول مرة، منذ العام 1967 - في تضمين البرنامج السياسي لحكومة مناحيم بيغن التي تشكلت بعد انتخابات 1977 بنداً يعتبر الاستيطان اليهودي في الأراضي العربية التي احتلت عام 1967 "مهمة وطنية من الطراز الأول، يتوجب توجيه موارد الدولة لتطويره".
لقد فتح هذا البند - تحديداً - الطريق أمام حدوث طفرة هائلة في المشاريع الاستيطانية في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة وهضبة الجولان ويشير الحاخام موشيه ليفنجر، من أوائل المستوطنين اليهود في الضفة الغربية، إلى العلاقة بين قدرة التيار الديني الصهيوني على استغلال خصائص النظام السياسي في (إسرائيل) وتمكنه من إرساء السيطرة على الأرض الفلسطينية على الأرض.
ويقول :"كانت هذه هي استراتيجيتنا، عدم المواجهة المباشرة والصدام، وإنما العكس تماماً، حيث كنّا نقدم الخطة للحكومة للسيطرة على قطعة أرض ما، ونسحبها في وقت لاحق إلى أن تصبح العملية بين شد وجذب، مما أتاح لنا استغلال عنصر الوقت وسط اللعبة الديمقراطية، لقد عملت المسافة الزمنية لصالحنا، وبكل بساطة اعتادوا على الحقائق الميدانية".
وفي كثير من الأحيان، لا يحتاج أتباع التيار الديني الصهيوني لأن يقوموا هم بأنفسهم بالسيطرة على الأرض، بل تقوم مؤسسات إسرائيلية بتسريب الأراضي الفلسطينية الخاصة لجمعياتهم التي تشرف على المشروع الاستيطاني.
وقد قامت ما يعرف بـ "دائرة أرض (إسرائيل)"، وهي الجهة الرسمية التي تدير الأراضي الفلسطينية التي سيطرت عليها (إسرائيل) كنتاج حربي عام 1948 و1967، بتسليم جمعية "عطيرات كوهنيم"، وهي جمعية متدينة أخذت على عاتقها تهويد مدينة القدس، عشرات الدونمات من أراض لعائلات فلسطينية في المدينة لكي تقيم عليها مشروعاً استيطانياً تهويدياً، وذلك بعد أن أعلنت "الدائرة" أنها صادرت هذه الأرض لـ "أهداف عامة".
وتجدر الإشارة إلى أنه بخلاف بقية مناطق الضفة الغربية، فإن معظم الاستيطان في مدينة القدس ومحيطها يتم بإشراف وإدارة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة؛ حيث إن (إسرائيل) قررت بعد أيام على انتهاء حرب 1967 جعل القدس بشقيها الغربي، الذي احتل عام 1948، والشرقي الذي احتل عام 1967، عاصمة (إسرائيل) "الموحدة والأبدية"، وهكذا فقد تعاملت مع المستوطنات في القدس الشرقية ومحيطها كما تم التعامل مع المدن داخل (إسرائيل). وقد برز تحديداً دور وزراء الداخلية من حركة شاس المتدينة - بشكل خاص - في مساعدة الجمعيات اليهودية، التي تعنى بتهويد المدينة، للسيطرة على أكبر عدد من العقارات فيها، عبر استخدام أساليب الغش والاحتيال وتطويع القوانين والنظم.
ونجح التيار الديني في توظيف العاطفة الدينية اليهودية في تجنيد رؤوس أموال يهود من جميع أرجاء العالم لتمويل الأنشطة الهادفة لتهويد الضفة الغربية، وتحديداً القدس. ويعد الملياردير اليهودي الأمريكي المتدين أورفينغ ميسكوفيتش أكثر رجال الأعمال اليهود "سخاءً" في دعم المشاريع التهويدية؛ إذ يتكفل بدعم معظم المشاريع التهويدية في القدس، في حين يتولى الملياردير اليهودي الأسترالي آرييه جوتنيك تمويل تهويد مدينة الخليل.
ولم تتوقف عملية نهب الأراضي حتى في أعقاب التوقيع على اتفاقات السلام؛ بل إن شهوة ومطالب المستوطنين كانت تزداد كلما خشوا من تبعات التحركات السياسية لإنهاء الصراع. وازدادت وتيرة التعاون المشترك بين التيار الديني الصهيوني وموظفي الإدارة الحكومية الإسرائيلية؛ حيث إنه في أعقاب توقيع اتفاق أوسلو تم إنشاء أكثر من مئة مستوطنة .
ومما ساعد أتباع التيار الديني الصهيوني على السيطرة على الأرض الفلسطينية حقيقة أن عدداً من كبار المسؤولين الذين يحتلون مواقع حساسة هم من عناصر هذا التيار. فقد منح مساعد وزير الدفاع الإسرائيلي لشؤون الاستيطان إيلي كوهين، وهو متدين من سكان مستوطنة (معاليه أدوميم)، في كثير من الحالات المستوطنين تصاريح للسيطرة على أراضٍ فلسطينية والتخطيط للبناء عليها.
ولا يكتفي المستوطنون بالسيطرة على الأراضي الفلسطينية الخاصة من أجل البناء والتوسع الاستيطاني؛ بل أيضاً من أجل زراعة محاصيل تنافس المحاصيل الفلسطينية. فقد سيطر المستوطنون في شمال الضفة الغربية على أراضٍ فلسطينية وقاموا بزراعتها بأشجار الزيتون، مع العلم أن الزيتون هو المحصول الرئيس الذي يعتمد عليه الفلاحون الفلسطينيون.
وتبين وثائق الإدارة المدنية، التي تمثل الذراع العسكري الإسرائيلي الذي يتعامل مع قضايا المستوطنين والمدنيين الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، أن جميع كروم الزيتون التي تعود للمستوطنين قد زرعت على أرض فلسطينية.