"الحانوتي"... شاهد على أحوال الموتى

غزة-محمد أبو قمر

بتقاسيمه السبعينية المكسوة بخطوط الزمن الذي ترك آثاره على وجهه، بدأ مغسل الموتى أو ما يعرف "بالحانوتي" الحاج أبو محمد طروش باسترجاع ذكرياته مع الموتى الممتدة منذ خمسة وثلاثين عاما.

ارتشف فنجان قهوته المرة وأخذ يحدق بعينيه الغائرتين في زوايا المكان ويقول " منذ ثلاثة عقود ونصف كنت أساعد مغسلي الموتى برش الماء، وبعدها بدأت بتغسيل الموتى لوحدي لوجه الله تعالى بحضور ثلاثة من عائلة المتوفى يتولون مساعدتي، لاسيما أن الميت أمانة بين يدي، ويجب المحافظة على أسراره ".

وتبدأ مراحل تغسيل الميت بتسجيته على لوح من الخشب وتعريته من ملابسه ، وتغطية عورته بقطعة قماش ، ومن ثم رشه بالماء الدافئ .

ويضع المغسل تحت عورة المتوفى قطعة من القماش ويحاول تجليسه أكثر من مرة ويصاحب ذلك تدليكا خفيفا للمعدة كي يخرج ما تبقى من فضلات، ومن ثم يباشر عملية الغسل بالجنب الأيمن مع عملية تدليك بسيطة بالصابون والماء ، ومن ثم الأيسر ويكمل عملية الغسل بالماء ، قبل أن يلفه بالكفن المكون من ثلاث قطع غير مخيطة.

ولم تغب الكرامات عن بعض الموتى ويقول طروش " أحيانا يكون وجه الميت وكأن النور يخرج منه، وعند تحريكه أثناء الغسل يبدو كأنه حي ويحرك يديه تلقائيا ولا تغيب الابتسامة عن وجوهه"

وتحدث طروش بعد إلحاح طويل عن مشاهدته بعض الأموات الذين تكون وجوههم عابسة مائلة للسواد، وعاد للقول "هذه أمانة وأسرار يجب ألا نفصح عنها".

واعتاد طروش على لملمة أعضاء الشهداء الذين تعرضوا لقصف وتناثرت أشلاؤهم، فيما كان يدفن الشهداء خلال الانتفاضة الأولى بساعة متأخرة من الليل بعيدا عن أعين الاحتلال.

وخاض مغسل الموتى تجربة طويلة خلال الحرب الأخيرة على غزة حيث واظب على التواجد طوال أيام الحرب داخل مستشفى كمال عدوان شمال القطاع القريب من منزله، وشهد جميع الجثث التي وصلته في تلك الفترة.

وأقسم طروش أنه وضع شهيدا في الثلاجة قضى اثر قصف مسجد الشهيد إبراهيم المقادمة في إحدى أيام الحرب، وكانت رائحة جميلة وكأنها المسك تخرج من جسده.

وبحسب طروش فانه انهمك طيلة الحرب بلملمة أشلاء الشهداء المتناثرة ، وأضاف " كان يصل الثلاجة مجموعة من الشهداء قضوا في ذات القصف، فأتكفل بلملمة الأعضاء ومقاربتها لبعضها بناء على المقارنة بالعين المجردة". 

ويبذل الحانوتي جهده للملمة أعضاء الشهداء لاسيما أن ذويهم يكونون بانتظار دفنهم، لكنه يشدد على أن أشلاءهم تكون في بعض الأحيان قطع لحم صغيرة ويصعب عليه التمييز بينها.

وفي الحرب صادف طروش ثلاثة شهداء أشلاء ممزقة ، وذووهم يودون دفنهم، فاضطر لتقسيم الأشلاء ثلاثة أقسام لإرضاء الأهالي .

واضطر في الحرب لجمع بعض الأجزاء التي لم يتم التعرف عليها ووضعها بكفن واحد ومن ثم دفنها بذات القبر.

وشهد طروش بعد الحالات التي ما أن ترى الميت حتى يغمى عليها ، لكنه قال " لو كنت بين الأشلاء ووجدت فنجان قهوة فاشربه ، وأعود للبيت وأتناول الطعام فالأمر طبيعي".

واعتاد أبناء طروش وأحفاده على تواجده المستمر بين الأموات والشهداء، وكانوا يواظبون على التواجد معه في ثلاجة الموتى لمساعدته وقت الحرب.

وتحدث الحانوتي عن شخص فارق الحياة اثر نشوب حريق، وكان من الصعب عليه تغسيله لكنه اجتهد بجمع جلده الممزق وتغطية أماكن الحروق، وإظهار ملامح وجهه.

وفي حال كان الشهيد أشلاء يضطر طروش لوضعه في كيس من النايلون ومن ثم تكفينه كي يراه ذويه بمظهر لائق من الخارج وليبقى الكفن ابيضا غير مخضب بالدماء.

وكما يذكر طروش فانه يتواجد مع الميت منذ لحظة التغسيل ويبقى لحين وضعه في القبر وتلحيده، ويضيف " كنت أواري الشهداء في الانتفاضة الأولى الثرى في ساعة متأخرة من الليل ، ولا أبالي من المقابر، ومستعد للنوم بداخلها".

ويمتلك طروش سيارة لنقل الموتى، وفي ذات مرة فضل ذوو ميت دفن فقيدهم في مقبرة جباليا القديمة التي غطتها القبور، وقرروا دفنه بجانب قريبه مما اضطره لنبش القبر من أحد جوانبه والدخول للقبر المغلق من الأعلى ولملمة العظام القديمة ووضع جثة الميت من ذات الفتحة الضيقة ومن ثم غادر القبر.

ويحتفظ طروش بذاكرته بمشاهد الموتى والأشلاء التي اعتاد عليها، ويمارس حياته بشكل طبيعي كما يقول بعيدا عن التأثيرات النفسية التي يصاب بها البعض في حال رأوا ميتا.

ولم تغب المشاهد المضحكة من حياة مغسل الموتى، حيث ما أن يصل المسجد حتى يطلب منه كبار السن الابتعاد عنهم وذلك لارتباط حياته بالموتى، ويقول " عندما يراني المسنين كأنهم يرون ملك الموت، بينما يتحاشاه بعض المسنين ويفضلون أن يسلكوا طريقا آخر إذا قابلهم في ذات الطريق.

ويبقى طروش شاهدا على كرامات بعض الأموات، وكأن حياته باتت معلقة بالأشلاء والجثث.

 

 

البث المباشر