ظلت روسيا من أكبر الداعمين للنظام السوري منذ عشرات السنين، ولم تغير أحداث الثورة السورية هذا الموقف، بل زادت من الدعم السياسي والمالي والعسكري، دفاعا عن آخر تواجد استراتيجي روسي في الشرق الأوسط.
وتقدمت روسيا مؤخرا بخطوة كبيرة وجديدة في مسيرة دعمها للنظام السوري، حيث بدأت زيادة الحضور العسكري في المناطق التي يسيطر عليها النظام خاصة في الساحل، وشملت التعزيزات معدات وأسلحة ومقاتلين من الجيش الروسي، كما تعد روسيا بنية تحتية لقاعدة جوية.
ومع تصاعد التدخل الروسي في سوريا، بدأت إسرائيل التحرك الجاد لضمان ألا يؤثر ذلك على طبيعة عملها الأمني والاستخباري على الحدود مع سوريا، وقد بادر رئيس الوزراء الإسرائيلي بزيارة عاجلة لموسكو غير معد لها مسبقا ولا مدرجة على جدول الزيارات السنوية، رفقة رئيس الأركان الإسرائيلي ورئيس الاستخبارات، وهي حالة نادرة أن يرافق جنرالات الجيش رئيس الوزراء في زياراته الخارجية، دون اصطحاب صحفيين في الوفد المرافق له، وذلك لتبديد المخاوف الإسرائيلية حول تداعيات زيادة التواجد العسكري الروسي.
مخاوف إسرائيلية
لا تبدي إسرائيل قلقا حقيقيا من الوجود العسكري الروسي، إذ لا توجد نوايا عدائية لروسيا تجاه إسرائيل، لكنها ترغب في تبديد مخاوفها وضمان مصالحها الأمنية، مع خشيتها من تأثير انتشار القوات الروسية على حرية العمل العسكري الإسرائيلي في الأجواء السورية، إذ إن إسرائيل تتواجد باستمرار في الأجواء السورية لأهداف عملياتية واستخبارية، وتريد ترتيب هذا التواجد بحيث لا يتصادم مع النشاط الروسي بعد قيام الأخيرة بنصب منظومات رادار وأنظمة دفاعية.
ومع تكثيف نشاط إيران وحزب الله في جبهة الجولان ينتاب إسرائيل قلق من استغلال البعض للحضور الروسي في توفير غطاء لشن هجمات ضدها، استمرارا للمحاولات السابقة، حيث قام الطيران الحربي الإسرائيلي بشن العديد من الغارات واستهداف نشطاء موالين لإيران سعوا لتنفيذ هجمات من الجولان. ولا يتوقف القلق الإسرائيلي تجاه إيران وحزب الله عند حدود الهجمات، بل يتعداه لنقل سلاح استراتيجي ومنظومات متطورة تغير قواعد الاشتباك لحزب الله عبر سوريا.
خطوط حمراء
لا توجد مصلحة إسرائيلية في انتصار طرف على حساب طرف بالصراع الدائر في سوريا طالما لم ينعكس ميدانيا على أمنها، ومع إدراكها لتعقيدات المشهد السوري، تكمن الرغبة الإسرائيلية في ظهور سوريا مجزأة ولا مركزية، وعاجزة عن أداء وظائفها.
يدفعها ذلك لرسم خطوط حمراء لنفسها ذات بعد استراتيجي ولا تسمح بتجاوزها، كنقل الصواريخ طويلة المدى أو مضادات الطيران المتطورة الكاسرة للتوازن، أو التحضير لأنشطة وأعمال من قبل حزب الله أو إيران قد تغير الوضع القائم في الجولان، ومنع سيطرة مجموعات إسلامية معارضة على مخزون النظام من السلاح غير التقليدي.
تدرك إسرائيل أن روسيا دولة نفعية انتهازية توجهها مصالحها الذاتية، ولن تقود أي خطوات تراعي مصالح أجنبية عندما تتعارض مع مصالحها، ومع ذلك فإن وقوفها إلى جانب نظام الأسد كفيل بأن يؤدي إلى الاستقرار، وهو السيناريو الأفضل من ناحية إسرائيل، لذا اصطحب رئيس الحكومة الإسرائيلية مدير الاستخبارات العسكرية في الجيش في زيارته المذكورة.
تمتلك إسرائيل كما وافرا من المعلومات الاستخبارية عن سوريا، وهي بالنسبة لها كالدفتر المفتوح، فسوريا نقطة خوف استراتيجي لهم، لذلك جندت كل الإمكانيات التكنولوجية من أجهزة تنصت عالية الجودة وأنظمة مراقبة بالإضافة إلى الجهد الاستخباري على مدار السنوات، ومع تصاعد الأزمة السورية كثفت من نشاطها الأمني، مما يمكنها من تقديم كم معلوماتي يساهم في نجاح المهمات الميدانية للقوات الروسية، كتحركات المعارضة، ونقاط الضعف والقوة، في المقابل تحصل إسرائيل على حرية الملاحة العسكرية والاستطلاع في الأجواء السورية.
وتدرك روسيا القدرة المعلوماتية والعملياتية الإسرائيلية في سوريا، فالضربات الدقيقة التي وجهها سلاح الطيران الإسرائيلي لسوريا، كقصف المفاعل النووي في دير الزور في 2007 وعشرات العمليات الدقيقة في القلمون ودمشق والجولان، تبرهن على قدراتها الاستخبارية، وقد لا يتوقف مستوى التعاون بينهما على التعاون في سوريا، فقد تقدم إسرائيل على بيع تكنولوجيا متطورة من طائرات الاستطلاع من دون طيار لروسيا، وغيرها من المنظومات العسكرية التي تساهم في تطوير القدرات العسكرية لروسيا مقابل الحفاظ على الخطوط الحمراء على الجبهة السورية، وقد وصل الجانبان أثناء زيارة نتنياهو إلى تفاهمات يُبنى عليها وستُعقد لقاءات تفصيلية لبحث سبل التعاون.
إسرائيل وروسيا
لا تبدو العلاقات الروسية الإسرائيلية مميزة ولا سيئة، فكلاهما يتعامل بمنطق الانتهازية والمصالح المشتركة، فعلاقتهما جافة ينتابها أحيانا بعض التوتر والتباين في العديد من الملفات، كالملف النووي الإيراني، والتوجه الروسي لتزويد كل من إيران وسوريا بصواريخ S300، لكن علاقتهما تبقى عموما جيدة.
فإسرائيل تعد روسيا دولة مؤثرة جدا على الصعيد الدولي وتتمتع بعلاقات مميزة مع أعداء إسرائيل في المشرق العربي وتزودهم بالسلاح، إضافة إلى مصالحها في المنطقة المحيطة بها، كما تتقاطع مصالحهما في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية والحركات الإسلامية السنية في سوريا كونها الأقرب لسدة الحكم في حال سقط نظام الأسد.
لقد شكلت التجربة المصرية في تولي الإخوان الحكم مصدر تهديد حقيقي لإسرائيل، وقدمت كل ما بوسعها هي ورسيا من أجل نجاح الانقلاب العسكري ودعمه وتسويقه، ولا يرغبان في تكرار ذات التجربة في سوريا، صحيح أنه يوجد تفاوت كبير في النظرة الروسية والإسرائيلية حيال نظام الأسد، فروسيا تعده آخر ما تبقى لها من مصالح استراتيجية في حوض البحر المتوسط، ورغم أن إسرائيل ترى أيضا أن انهيار نظام الأسد هو سيناريو مؤلم لها، فإن ظهور سوريا مجزأة ولا مركزية وعاجزة عن أداء وظائفها بعد الأسد هو النموذج المفضل لها.
الولايات المتحدة الأميركية لا تغيب عن مشهد العلاقات الروسية الإسرائيلية، فنتنياهو أبلغها بالزيارة قبل أسبوعين، وإسرائيل ما زالت تعدها حليفتها التي تحافظ على مصالحها، لكن إسرائيل تدير علاقاتها الخارجية وفق معطيات قد لا تنسجم مع الولايات المتحدة بما لا يؤثر على صلابة العلاقة، إلا أنها لا تضيع الفرص من أجل بناء سياسة خارجية مع القوى الصاعدة كالصين والهند وتركيا بما يخدم أجندتها.
تقاطعات مؤقتة
قد تلتقي المصالح الروسية الإيرانية الإسرائيلية في المرحلة الحالية لكنها لن تستمر طويلا، فالدول الثلاث تحمل رؤى مختلفة، فسعي روسيا لزيادة حضورها العسكري والأمني في سوريا قد يهدف في جزء منه لموازنة الحضور الإيراني المتعاظم ضمن مشروعها التوسعي، في حين تريد روسيا أن تكون لها اليد الطولى في سوريا حتى تستطيع فرض حلول ما قد تتوصل إليها مع الإدارة الأميركية لتقاسم النفوذ أو مبادلته في موضوع أوكرانيا.
كما أن إيران لن تتخلى عن دورها في دعم حزب الله في لبنان وتسليحه ونقل أسلحة متطورة كاسرة للتوازن إليه، مع إمكانية انسحابها التدريجي من القتال في سوريا وإبقاء بناء القدرات العسكرية والنشاط العملياتي في منطقة الجولان، حيث نشطت خلايا موالية لإيران وتعرضت لأكثر من عملية استهداف إسرائيلية.
قد تلجأ إيران إلى وقف محاولات الاستهداف من الجولان، إلا أن ذلك لن يمنعها من رفع القدرات القتالية للمجموعات العاملة، مما قد يولد صداما مع الروس، لكنه لن يفجر الوضع بقدر ما سيهز الثقة المتبادلة، فإسرائيل بالنسبة لإيران عدو وتبني خطابها الرسمي في المنطقة العربية على الدعوة إلى زوالها، كما أنها تخوض حرب سوريا تحت ذريعة حماية محور المقاومة، مما يبقى حالة الحرب غير المباشرة بينهما مفتوحة.
ستسعى إسرائيل لترجيح إمكانية تقسيم سوريا إلى دويلات تكون الدولة العلوية أولاها، في ظل الاهتمام الروسي والإيراني بمناطق الساحل، مما سيخرج سوريا من موازين القوى الإقليمية، إلا أن المشهد الحالي والتحرك الروسي الأخير يكشف أن الحرب في سوريا لن تضع أوزارها في المستقبل المنظور.
ورغم كل ما تملكه إسرائيل من قدرات استخبارية فإن سرعة الرمال المتحركة في المنطقة تبقيها تعيش هواجس المفاجآت غير المحسوبة، وأي تغير في موازين القوى في سوريا، أو تغيرات في النظام الحاكم في مصر سيشكل مصدر قلق، مع تزايد العداء الجماهيري لها، في ظل ما تسعى لفرضه من واقع جديد في المسجد الأقصى.