تمضي الرواية في تواز جميل بين الحكاية البسيطة والأفكار الداعية للتأمل.. ففي حي البساتين بتونس، نتعرف أكثر على بطل الرواية المهاجر القادم من فرنسا، الذي يقضي أيام إجازته السنوية في بيت شقيقه "إبراهيم" وزوجته "يسرى" وابنهما الطفل "وائل". في كل يوم له في تونس لنا موعد مع اقتناصاته لظاهرة يعيشها المجتمع والعائلة أو حتى الفرد في حد ذاته.
"لا شيء تغيّر في حديقة العمارات سوى أنّ النباتات كبرت واستطالت، وأنّ أشجار السرو والدفلى صارت سامقة وارفة.." هكذا يستهل الكاتب متنه الروائي، في إشارة إلى ثقل حركية التغيير على مستوى الأمكنة على الأقل، وحتى على الأفراد في بعض الذهنيات فقط دون غيرها.
لا يزال مجبرا على جلب الهدايا مع كل سفرة، ومضطرا لتلقي سيل كبير من الشتائم والكلمات الجارحة والقاسية على اعتباره مغتربا تزوج فرنسية من أجل مصلحته من أوراق رسمية للإقامة هناك، ينتظرون منه سيارة فارهة ومالا لا ينضب، وفترة إجازة أطول!
الهامش الأكثر أهمية في النص، هو إسقاط مختلف الذهنيات على حال الوطن كله. ماذا عنت كل تلك الحرية التي منحت للمرأة في تونس، وهل هي حقا تتمتع بحقوق كاملة وهل ذلك في مصلحتها؟ ولماذا تطغى تلك الازدواجية المقيتة بين الأشخاص، الأمر الذي وسّع من حالات الكذب والنفاق بين أقرب الناس؟
شذرات أسئلة يطرحها الكاتب بصورة مواربة، والقارئ ليس مجبرا على إيجاد إجابات معينة، يكفي أن يتمعن مع صاحب الرواية في حال وطن يبدو مغلفا بكثير من الوعود والجماليات والشعارات البراقة، لكنها تخفي خلف كل ذلك تناقضات وهواجس من الممكن أن تطيح ببلد بأكلمه.
صدرت الرواية عام 2010 عن دار الآداب، أي أنها كتبت قبل ثورة الياسمين بتونس.. وحتى وإن كان عنوان العمل وانشغالاته في مجملها عتبات توحي بملامح تنبؤية لثورة قادمة، فإنّ صاحبها يرفض فكرة التنبؤ، معتبرا أنّ الكاتب ليس نبيا وإن كان يتمتع بحاسة رصد قوية.
المفارقة الجميلة والعفوية في الرواية، كانت أيضا في رصد مشهد كان له الأثر البالغ في ثورة تونس، وهو الإشارة الدلالية للخطاب الثوري الذي يعنيه اسم الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي، مع مركز للشرطة يستقر بنفس الحي.
يقول السالمي: "رغم المباني التي تكاثرت كنبات الفطر في حيّ البساتين، فهي تقع في شارع أبي القاسم الشابي الرئيسي بالقرب من مركز الشرطة الذي لا يمكن أن تخطئه العين حتى في الليل..".
بين أسئلة الطفل وائل البريئة والمحرجة.. نزوات صديقه في أقدم الأحياء، وقناع الالتزام الذي يضعه شقيقه إبراهيم، وما يكشف عنه لاحقا، وقناعات يسرى المتقلبة.. بالإضافة إلى الأفكار الجاهزة التي يرفعها المجتمع ضد كل شخص لا يتبع مظاهر التدين التي انتشرت إلى درجة الشيوع دون اقتناع كامل بها.. مشاهد متحركة شكلّت في الأخير بانوراما استعراضية روائية أتقنها الروائي الحبيب السالمي بأسلوبه السهل الممتنع.
وختم الروائي كل تلك الفسيفساء التأملية بكومة مفاجآت ذات وقع قوي وصاخب، كانت تتركها كل ليلة يقضيها هذا المهاجر العائد إلى بلده الأم. وهو يرصد متغيرات هواجسه من منطلق المغترب المحلّل للوضع الراهن.
الجزيرة نت