في مثل هذه الأيام قبل أربع سنوات، أرغمت (إسرائيل) على اطلاق سراح حوالي 1027 أسيرا "ملطخة أيديهم بالدماء" وفق ما وصفهم قادة العدو آنذاك، كانوا على موعد مع حدث غيّر مسار المواجهة وقلب موازين المعادلة في أدق ملفات الصراع حساسية بين المقاومة والمحتل.
كان الفلسطينيون في غزة والضفة يحتفلون بإنجاز صفقة وفاء الاحرار التي توجت بعد حوالي سبع سنوات على اختطاف جلعاد شاليط، تخللها العشرات من جولات التفاوض بين طرفين متناقضين من حيث الخبرة ومرتكزات الدعم والاسناد التي يملكها كل منهما.
لم يكن المفاوض الفلسطيني الجديد مجربًا بعد في ميدان التفاوض السياسي، على عكس غريمه الذي كان أكثر دهاءً عدا عن كونه مسنودًا من أطراف اقليمية ودولية، فلم يكن خافيًا ان وفد حركة حماس، يفاوض أطرافًا عدة طيلة مرحلة مباحثات الاسرى كان أكثرها تشددًا موقف الوسيط آنذاك نظام حسني مبارك.
وكشف الشيخ صالح العاروري مسؤول ملف المفاوضات بحركة حماس آنذاك، أن اطرافًا دولية أخرى دخلت على خط التفاوض، كألمانيا وبعض الاطراف الأخرى، وجميعها كانت تبحث عن شاليط بثمن بخس وبدون مقابل.
ولم تدرك (إسرائيل) حينها طبيعة خصمها المفاوض، إذ لم تعتد على هذا النوع من التفاوض المسنود بقوة السلاح وأوراق القوة، ورغم حالة الضغط الشديد التي مارستها اطراف عدة وفي مقدمتها مصر وما تلقته من تهديدات مباشرة يومها، الا أن الحركة لم تعر ذلك اهتماما وبقيت على مواقفها.
يؤكد فرج الغول القيادي في حركة حماس، أن اقصى ما طرحته بعض الاطراف كان تسليم شاليط مقابل بضع جثامين لشهداء ارتقوا ابان الانتفاضة الثانية، مشيرًا إلى أن قيادات فلسطينية وعربية اتصلت بالحركة وابلغتها أن يتم تسليم شاليط مقابل تسليم رفات بعض الشهداء واعلان حالة النصر.
ثماني سنوات أدركت فيها (اسرائيل) استحالة انتزاع شاليط من حركة حماس بقوة السلاح، فاضطرت لاجراء قنوات سياسية منها السرية ومنها المعلن، والقبول أخيرًا بما تطرحه الحركة بعيدًا عن لغة المساومة والتنازلات.
وعلّق يورام كوهين رئيس وفد الاحتلال في مفاوضات الصفقة، أن هذه التجربة أثبتت ان هناك نوع جديد من المفاوضين الفلسطينيين، مختلف تمامًا عمن فاوضتهم (إسرائيل) طيلة 25 عامًا.
وقال كوهين، إن هذا النوع من التفاوض لم تجربه (إسرائيل)، واضطرت اليه لأنها لا تملك خيارات أخرى للحصول على شاليط.
هنا يعقب الخبير الاستراتيجي المصري محمد احسان صادق، بالقول إن المسؤولين دوائر القرار الأمني والسياسي المصري، قرروا عدم الضغط على حركة حماس، وجرت المفاوضات في فندق مغلق يفصل بين الوفدين غرفة واحدة، واقتصر دور وزير المخابرات رأفت شحادة على الوساطة فقط.
ويقول صادق لـ"الرسالة نت"، إن مسؤولًا في السياسة المصرية أخبرني بأن المفاوضات التي جرت كانت صعبة ومعقدة، "فعلقت عليه ساخرًا هل هي أصعب من مفاوضات اوسلو، فضحك المسؤول بابتسامة ساخرة وسكت".
نجاح الصفقة فتحت شهية حماس نحو مزيد من خيارات الأسر، دفعها لتأسيس قواعد عسكرية خاصة تساعدها على تحقيق هذا الهدف، وتخصيص برامج عسكرية تتعلق بها من خلال التدريب والاعداد، حيث ساعدها ذلك بالاحتفاظ في صندوق أسود لا تزال مكامنه مجهولة في أول مواجهة برية صيف العام الماضي بين المقاومة والاحتلال.
قادة حماس رفضوا الافصاح عما يحتفظ به هذا الصندوق الذي أصبح يشكل كابوسًا مقلقًا لأروقة صناع القرار في (إسرائيل)، حيث تخشى قيادات الاحتلال فتحه في الوقت الراهن، توجسًا من تداعياته السياسية داخل الكيان وحتى على صعيد مسار المواجهة مع المقاومة، وفق تقديرات سياسية لمختصين في الشأن الاسرائيلي.
وبدت صفقة شاليط التي أبدى فيها الكيان تعنتًا كبيرًا، وتمسكت فيها المقاومة بشروطها، أقل كلفة بما يحتويه الصندوق الأسود، ويدرك نتنياهو أن الثمن الذي سيدفع في الصفقة المقبلة أكبر بكثير مما دفعه سابقًا.
وعرضت (اسرائيل) عددًا من الوساطات الدولية خلف الكواليس، للحصول على معلومات بشأن جنودها المفقودين، بيد أن حماس كانت أكثر وعيًا وادراكًا لهذه الحيلة، إذ أكدّت أن هكذا مسارات من شأنها ان تعقد مسيرة عملية التفاوض، وفق ما تحدث به القيادي بحماس اسامة حمدان.
وقال حمدان لـ"الرسالة"، إنّ اطرافًا دولية عرضت وساطتها في هذا الشأن، ودارت معها أحاديث مختلفة، في محاولة من الجانب الإسرائيلي للتذاكي من أجل الحصول على أي معلومة، موضحًا أن مسار البحث في مفاوضات الأسرى منفصل عن اتفاق التهدئة، الذي تصر الحركة على حسمه بشكل نهائي عبر تطبيق الاتفاق الذي تم بعد العدوان الأخير.
وبيّن حمدان شروط الحركة للدخول في اي مفاوضات حول الجنود المفقودين مشيرا الى ضرورة اعتراف الاحتلال بعدد جنوده بشكل دقيق والاستعداد لمثل هذه المفاوضات وتقديم اشارة واضحة باحترامه والتزامه باتفاق الصفقة السابقة بإطلاق سراح جميع الاسرى الذين تم اعتقالهم من محرري صفقة وفاء الاحرار.
وتؤكد حركة حماس أن أي صفقة قادمة لن يكون ثمنها أقل مما دفع في صفقة وفاء الاحرار، بل إنه سيكون أكبر في ظل ما تحتفظ به الحركة من أوراق قوة.
ويؤكد مختصون في الشأن الاسرائيلي أن المستوى الرسمي في (إسرائيل) يدرك حقيقة ما خلفه في معاركه بغزة من أسرى ومفقودين، غير أنه لا يجرؤ أن يقدم على فتح الصندوق الأسود في الوقت الراهن، سيما وأن أوضاع الانتفاضة قد طغت على الاحداث الجارية.
ويعتقد المختصون أن فتح الصندوق هي مسألة وقت فقط، سيضطر اليها الاحتلال عاجلًا ام آجلا، لأنه لا يملك خيارات أخرى في فتحها.
وأكدّ عزت الرشق عضو المكتب السياسي لحركة حماس أن فصائل المقاومة وعلى رأسها كتائب الشهيد عز الدين القسام، قادرة على خلق عنصر المفاجأة في أي تحرك لها بشأن موضوع الأسرى".
وقال الرشق لـ"الرسالة نت"، ردًا على سؤال بشأن الأسرى (الإسرائيليين) لدى حركته إنّ المقاومة كما أبدعت من قبل وفاجأت الاحتلال على أرض الميدان قادرة على أن تفعل ذلك اليوم وغدًا".