تبقى العبقرية كامنة في مخبئها عصية على الإدراك، حتى تأتي العين التي تدركها فتخرجها للعلن، غير أن هذه اللحظة قد تتأخر أكثر من اللازم فتجني العيون الحمقى على العبقري قبل وصول تلك العين الذكية.
هذا ما حصل تماما مع الكاتب الأميركي كنيدي "جون كنيدي تول" الذي تحالف ضده الناشرون برفضهم لمخطوطه الروائي "تحالف الأغبياء"، ليدفعه ذلك الغبن إلى الانتحار في 26 مارس/آذار 1969 ويترك مخطوطه وراءه، ذلك المخطوط الذي طالما اعتقد أنه أثر فني كبير.
أثبتت فكرة تول أمه التي واصلت حلمه وعثرت على ناشر له بمساعدة الكاتب "وويكر بيرسي" بعد أكثر من عشرين سنة، لتنتزع هذه "الملحمة الكوميدية" جائزة بوليتزر المرموقة سنة 1981 في مشهد تراجيدي لكتاب منتحر قديم عاش تجربة الرفض الكاملة.
وقد صدرت الترجمة العربية للرواية عن دار نينوى (2015) بقلم عدنان بنغجاتي، بعدما ترجمت إلى عشرات اللغات.
في مرحلة عصيبة بدأ يدخلها العالم باجتياح اليابان للصين قبيل الحرب العالمية الثانية التي اندلعت في أوروبا بعد سنتين، وخبر تحطم المنطاد الألماني هيندنبورغ في مطار نيوجيرسي، استقبل العالم طفلا يدعى جون كنيدي تول، وكأن القدر قد ساقه توقيعا أخيرا للسوداوية والكابوسية التي ستضرب العالم لسنوات طوال.
حاول الطفل أن يخلق مستقبلا مختلفا لما يحدث حوله، وتعلق بالأدب منذ طفولته، وآزرته أمه التي كان لها أثر كبير في بناء شخصيته الثقافية. كتب أولى رواياته وهو في سن السادسة عشرة، ليواصل تعليمه وشغفه بالأدب، فيصبح مدرسا بالجامعات الأميركية، حتى جاءت اللحظة التي اضطر فيها للالتحاق بالجيش في بورتوريكو لتدريس الإنجليزية للجنود الناطقين بالإسبانية.
وهناك بدأ يكتب روايته الأخرى "تحالف الأغبياء" التي أنهاها في بيت العائلة بعد تسريحه من الجيش سنة 1963.
تعد رواية "تحالف الأغبياء" اليوم واحدة من كلاسيكيات الأدب الأميركي، وواحدة من علامات أسلوب السخرية السوداء التي ظهرت بالسرد الأميركي في القرن العشرين.
وقد نجح الروائي الأميركي بأسلوبه الساخر في عرض ونقد ذلك العالم بطرق ذكية، مستعينا بالكوميديا السوداء التي أمنتها في الرواية شخصيتا "أغناطيوس رايلي"، الشاب البدين الذي لا يتوقف عن الأكل والمتحصل على الماجستير في آداب القرون الوسطى، وأمه "إيرن" الأرملة الأكول المصابة بداء التهاب المفاصل، وعلاقتهما الطفولية في التعامل مع الواقع والمصادفات المربكة في ذلك العالم الاستهلاكي المتوحش الذي افتقد لكل قيمة، وتحول إلى مجرد سلع ومعلبات أكل تحتشد في المحلات التجارية والشوارع وتطارد الكائنات النهمة.
كانت الرواية صفعة قوية يوجهها جون كنيدي تول للحداثة في معقلها، وذلك من خلال مناقشة أغناطيوس لها وسخريته منها في شيء يذكرنا بسيرة ديوجين، وهي فلسفة تصوب سهام أسئلتها إلى اليومي والمعيش، مستندة على اسم علم يذكرنا بعضه بالديانات واللاهوت وبعضه الآخر بفلسفة الكلبيين التي تقوم على مجاراة الطبيعة وعدم المبالاة بالعرف.
ينحو أسلوب تول نحو الكوميديا السوداء، ولكنها كوميديا ذات مسحة سريالية تجاوزت الخطاب لتطال المناخ والمخيال، وتشكل الشخصيات ذات الملابس الفضفاضة والألوان الغريبة والقبعات العجيبة التي كان يرتديها كل من الأم والابن وبقية الشخصيات التي تنتهك مجالها الخاص.
لكن شيئا مزعجا ينتاب المتلقي في هذه الشخصية التي تتواجد في غير سياقها. فأغناطيوس، هنا، شخصية انسحابية تتواجد خارج المألوف العام، ويعاني من فائض في كل شيء؛ فائض وزن لبدانته، وفائض في الثقافة والمعرفة، وفائض في النقد والهجاء. وربما يكون هذا الفائض هو المعادل الموضوعي الذي يوازن من خلاله بين عدم الرضا عن محيطه وفشله في تحطيم الأصنام التي تسبب له النكوص.
الجزيرة نت