يُطلق عليه الأميركيون لقب "الرئيس الإنسان"، إنه الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر الذي يحمل الرقم 39 في قائمة تسلسل الرؤساء الأميركيين الذين توالوا على البيت الأبيض، وهو كاتب وصاحب هذه السيرة الذاتية، وقد أعلن عنها حين بلوغه عامه التسعين وإثر إعلانه على الملأ إصابته بمرض السرطان الذي قد يكون في مراحله الأخيرة.
أما لماذا يحبّ الأميركيون أن يلقبوه بالرئيس الإنسان فذلك يعود إلى نشاطه في مجال الدعم الإنساني وتفعيل مساعي الأمن والسلم العالميين بما فيه صلاح حال البشرية سواء حين كان في منصبه الرسمي رئيسا للولايات المتحدة، أو في موقعه بعد خروجه من الحكم عاملا في مجال حقوق الإنسان والتنمية البشرية في البلدان الفقيرة والخاضعة للحروب والنزاعات الأهلية.
وقد أفرد كارتر في كتابه فصولا عدة لإنجازاته في فترة رئاسته التي تميّزت بأحداث سياسية يغلب عليها الجنوح إلى السلام وتغليب المنطق الإنساني على الغلبة السياسية. فقد سجّل في فصل كامل عودة منطقة قناة باناما إلى سيادة أبنائها، وفي فصل آخر توقيع اتفاقيات كامب ديفيد للسلام في الشرق الأوسط بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إلى جانب فصول عن الكوريتين الشمالية والجنوبية وعن العلاقات الأميركية الإيرانية وأزمة اختطاف الرهائن الأميركيين في طهران وغيرها مما اغتنى بها متن الكتاب.
ومنذ مغادرته البيت الأبيض عام 1980 حتى تاريخ إصداره كتابه هذا في شهر أغسطس/آب من العام الجاري، تفرّغ للمشاركة والعمل بفاعلية عالية في المحادثات الدولية والمفاوضات التي تساهم في إحقاق السلم ونبذ الخلافات بين الحكومات العالمية.
فظهر على سبيل المثال مفاوضا أول للسلام في هاييتي، ودوره كان لافتا في عودة رئيسها الشرعي المنتخب من الشعب إلى سدة الحكم في أكتوبر/تشرين الأول 1994. حاز على جائزة نوبل للسلام للعام 2002 لجهوده في التوصل لحلول للصراعات الدولية والعمل على دفع مسيرة ازدهار الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان في العالم.
العنصرية والتمييز
الكتاب هو صفحات حاشدة بقصص سيرة كارتر الإنسانية والسياسية، تسجّل بدقة وعناية لحياته منذ سني شبابه الأولى حيث نشأ في الناحية الريفية من ولاية جورجيا حين كانت العنصرية والتمييز بين السود والبيض على أشدها في العشرينيات من القرن الفائت.
ويسرد كارتر بشفافية وصدق ممارسات التضييق الاجتماعية التي كان يتعرّض لها أصحاب البشرة الداكنة من أبناء بلدته الصغيرة على يد الأميركي الأبيض في ذلك الحين. ورغم العزل الذي كان سائدا بين البيض والسود، فإن والدة جيمي كارتر -التي كانت تعمل ممرضة وهي المثل الأعلى بالنسبة له كما يشير في كتابه- كانت أول من خرق حاجز هذا العزل العنصري المقيت عندما قامت بمعاينة مريضة سوداء وتقديم المشورة الطبية لها حين كانت مشافي البيض لا يدخلها السود.
الاستيطان مقتل السلام
يعتبر كارتر الذي خدم في الجيش الأميركي على متن سلاح الغواصات وعاقر أدوات الحرب والقتال، مقاتلاً شديداً من أجل السلام أيضاً. يفتخر كارتر بإدارته المفاوضات التي أدّت لتوقيع أول اتفاقية للسلام بين العرب وإسرائيل، وهي اتفاقية كامب ديفيد التي رعى حفل توقيعها في البيت الأبيض بمشاركة أغلب رؤساء وقادة العالم عام 1979. لكن كارتر يشير في كتابه إلى أن حكومات (إسرائيل) أخلّت باتفاق كامب ديفيد لتجاهلها القضية الفلسطينية ومواصلة البناء الاستيطاني في الضفة الغربية بما يخالف القانون الدولي أيضا.
ويفيد كارتر بأنه هو الذي شهد توقيع الاتفاقية في البيت الأبيض، شهد أيضاً إنزال العلم الإسرائيلي من على السفارة الإسرائيلية في القاهرة. ويعزو الأمر إلى أن الشعب المصري اكتشف خديعة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على اختلاف مشاربها وسياساتها. ويفيد كارتر بأنه بعد التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد تمّ التوقيع على اتفاق آخر بشأن الحكم الذاتي للفلسطينيين يرافَق بانسحاب كامل من الأراضي الفلسطينية المحتلة وذلك موازاة مع تطبيق قرار الأمم المتحدة الملزم رقم 242 والقاضي بانسحاب (إسرائيل) غير المشروط من الأراضي المحتلة، لكن (إسرائيل) ضربت عرض الحائط بالاتفاقيات المتعلقة بالقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه وإقامة دولته، وخذلت كارتر والعالم.
درس الحب والإرادة
في يوم أحد حار من أيام أغسطس/آب 2015 وقف الرئيس جيمي كارتر كعادته منذ خروجه من البيت الأبيض ليقدّم درسه الأسبوعي المعتاد عن الكتاب المقدّس في كنيسة ماراناثا في مسقط رأسه ولاية جورجيا.
إنه الدرس 362 ولم يمنعه انتشار المرض في جسمه النحيل من وقوفه بين أهل ضيعته وأبناء شعبه ليحضّهم على مشاعر التآخي والحب والمسامحة بعد أن جمع حياته كلها، بحلوها ومرّها، في كتابه "حياة مكتملة" ودخل في صراع محتوم مع شراسة المرض الذي كتبت عنه مجلة كيركس نيوز: الصور المشهدية والحالة الشعرية هما الخطان اللذان ينظمان لغة كارتر وخطابه الذي لا يخلو من اللمسات الشخصية الصادقة.
وعلى الرغم من قطيعته مع إدارة أوباما، فإنه يكتب بعمق عن السياسات الأميركية ويسجّل لإنجازه السياسي وكأنه يكتب خواتيم هذا الإنجاز.
الجزيرة نت