بدت عليها علاماتُ التعبِ الذي أخذ جزءًا من صحتها، وما يزيد عن شهرٍ في انتظارها حتى تتعافى ونجري حوارًا معها؛ يخلّد قصتها التي وصفها أحد المفكرين أنّها "كنزُ الزمان"، كما أخبرها أحد ضباطِ الاحتلال "الإسرائليي" أثناء التحقيق معها "لو وجدت (4 نساء) في المخابرات الإسرائيلية مثل فاطمة الحلبي لن ننهزم قط".
زارت "الرسالة"؛ الحلبي (70 عامًا) في مكتبها الذي تزيّن بصور كفاحها المسلّح، التي يكسوها "أبيض وأسود"، ورُغم قدم سنّها الذي يعود لعهد "النكبة"، إلّا أنّ لسانها لا ينطق إلا الفصحى التي أظهرت مدى عمقها، تقول بلسانٍ عربي سليم: "حياتي قضيتها لخدمة الحق، ولو عاد الزمان بي للوراء، سأعيد تفاصيلها على أكمل وجه، وأتمنى من الله أن يتحوّل كل غرام في جسدي إلى قنبلة تتفجّر في الاحتلال وأعوانه".
تعود فاطمة بذاكرتها إلى بداية النكبة، وقت أن كانت في أحضان أمّها "وطنية"، تناغي باسم فلسطين، وترضع حبّها، وإن سألوها عن أبيها، تبتسم وتصفق ببراءة مجيبة: إنّه "عُمر الحلبي".
تنظر إلى صورته التي زيّنتها في "برواز" أمام عينيها، وتستحضر طفولتها برفقته، تقول فاطمة: "طفولتي كانت غريبة جدًا، أذكر جيدًا مشهد حضور أحد العملاء إلى منزلنا برفقة جنود الاحتلال، ومطالبتهم والدي بالاعتراف على السلاح وأماكنه، لكنّه رفض".
صرخته في أذني
كان المشهد قاسيًا، وما زالت صرخة والدها "عُمر" تدوّي في أذنها بعد توجيه ضابط "إسرائيلي" سؤاله لأمها عن مكامن السلاح، فنادى عليها رب الأسرة "اصمتي يا وطنية"، وكان لندائه ثمن، بتوجيه أحد الجنود بندقيته اتجاه بطن الأم التي كانت حاملا في شهرها التاسع، وصرخة أرعبت من في المكان أطلقها "عمر"، أوقفت عملية القتل، فاقتادوه إلى جهةٍ غير معلومة.
"قضى وقتًا في سجنه، وجوّعوا كلابهم ثم أطلقوها عليه"، تتحدث فاطمة عن والدها، وتصف بشاعة منظر جسده الذي أمسى متآكلًا، وتناثر جلده في ثيابه بفعل التعذيب.
وفي أحد الصباحات، استيقظت فاطمة على خبر "سيتم إعدام عُمر الحلبي في الميدان الساعة العاشرة صباحًا"، فهرع الجميع إلى المكان، وبقيت -وعمرها حينئذ سبع سنوات- على باب منزلها، ولم يُدخلها أحد جيران حيّها إلى بيته خوفًا من المساءلة الإسرائيلية، "لأنّ هذه العائلة بسبب نضالها لا يترك اليهود المكان، ودائمًا يفرضون الطوق عليه، فلا يهنأ سكانه بالحياة".
انتظرت العائلة خبرًا بشأن "عُمر"، لكنّ البوليس الدولي أخبرهم أنّه ما زال على قيد الحياة، وجاءهم أحد "الأصدقاء" ليطلب مالًا ليشتري الملابس لوالدهم في المعتقل، وتبين لهم لاحقًا أنّه كان يسرقهم دونما يوصل شيئا داخل السجن.
غيّرت فاطمة من جلستها، وحدقت في الصور التي رصّتها على جدران مكتبها، ثم أخذت تنهيدة وألحقتها بجملة: "أخذني الإسرائيليون وعائلتي وقت أن كان عمري سبع سنوات إلى مستشفى المعمداني شرق غزة، ووجدت أبي الذي صعُب التعرف عليه من شدة التعذيب الذي لحق به".
استمر علاج "عُمر"، حتى تعافى من إصاباته، وبقيت أنياب "كلاب الاحتلال" ترسم علاماتٍ على جسده، وسارت الأيام وكبرت "فاطمة"، حتى أضحى عمرها (19عامًا)، وتذكر حديثها مع والدها في إحدى البيارات.
"أنت نشيطة والجماعة طلبوا أن تكوني في التنظيم"، يبدأ مع ابنته الحديث، ترد عليه فاطمة: "وما هي مهامي تحديدًا؟"، يخبرها مربتًا على كتفها: "ستعلمين ذلك من قائد التنظيم -أبو علي-".
كان الاسم الحركي لقائد التنظيم "أبو علي"، لكنّ حقيقته غير ذلك، فاسمه "زياد الحسيني". وبعد اللقاء الذي جمعها معه، وكّلت إليها مهمّة "نقل السلاح من مكان لآخر، ومرسال في توصيل المعلومات لمجموعة المسلحين الفلسطينيين".
تطوّر العمل
تطوّرت مهمة فاطمة، وطلب "الحسيني" لقاءها، فحضرت إلى مكانٍ مليء برجالٍ مدججين بالسلاح، ثم أوكل إليها أمر "الارتباط المباشر مع قيادة قوت التحرير الفلسطيني".
تقول فاطمة: "كلّفوني أن أكون حلقة وصل بين المناطق، وجميع المعلومات تصبّ عندي، ثم أنقلها للقيادة.. تطور بي الأمر حتى أصبحت أمور المال والسلاح تمر من خلالي".
ما زالت كلمة الحسيني التي قالها لـ"عُمر" عالقة في ذهن فاطمة، تُحدثنا بها: "أخبر والدي أنّه لا يؤمّن لأحدٍ في التنظيم سواي، لأنّي ألتزم السرية، وأشارك في جميع العمليات الفدائية التي كان ينفذها عناصر من قوت التحرير".
علاقة المقاومة جمعت بين "فاطمة" وزياد الحسيني، حتّى أطلق الأخير عليها لقب "زنبرك القوات"، ثم تقدّم لخطبتها من والدها لتكون زوجة له، وتمّ الأمر بالقبول.
وكأنّ خطبتها تمّت للـتو، فقد عاد بها الزمن خمسين عامًا للوراء.. تبسّمت خجلًا ثم تابعت حديثها: "كان سبب خطبتي حتى أمارس عملي باندفاعية، وأبقى إلى جانب الحسيني في جميع أعماله، وأكون يده اليمنى في القرار والتنظيم".
كلماتُ غزلٍ أطلقتها لخطيبها بقولها: "كيف أرفض من باع روحه، والتحف التراب، وأكل أوراق الشجر لأشهرٍ وهو يدافع احتلالا جاثما على صدورنا في فلسطين".
في كنف "البارود، وتصنيع بطاريات الانفجار، والتدريب على السلاح، وصناعة ساعات الصاعق قضى العروسان أيامهما، وفي هذا الأمر تقول فاطمة: "أصبحت أتقن جميع الأعمال العسكرية.. ولو جئتني الآن بأي متفجّر أفككه لك، أو أصنع لك مثله".
زواج الحسيني
لم يعلم أحد بزواج "فاطمة والحسيني"، وجميع المحيطين يحسبونهم أشقّاء، ويخشون من تطوّر قدرات العروس، لا سيما أنّها أصبحت عسكرية تنافس الرجال في خبرتها، وتشرف على العمليات العسكرية التي ينفذها الشبان ضد الاحتلال، وصاحبة البصمة في "تكتيكات الهجوم".
اجتماع نظّمه الحسيني في أحد مراكز التدريب، وأخذ عهدًا من جميع العناصر والقيادة "ألا يعترف أحدٌ على الحلبي أنّها في القيادة، ومن يعترف يتعرض للعقاب الشديد".
لم يرق نشاط الحسيني العسكري لكثيرٍ من العاملين على الساحة الفلسطينية، فنظّموا أمرًا بينهم للتخلص منه في أقرب فرصة.
تقول: "كانت في مرحلتنا حركة الاخوان المسلمين ويحاربهم الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وكنا نحن نتبع لجيش التحرير الفلسطيني التابع لأحمد الشقيري، وعلى الساحة أيضًا الجبهة الشعبية الماركسية"، وتتابع والمرار يكسو تقاسيم وجهها، "عقدوا مؤامرة لقتلنا والتخلص منا، واحلال حركة فتح مكاننا لتمثل منظمة التحرير الفلسطينية في فلسطين".
أعطيت التعليمات "بقتل من استطاعوا إعدامه في غزة، وابعاد الآخرين إلى بيروت، وإحلال فتح مكانهم". وفق الحلبي.
أخيرًا، أحيكت مؤامرة الاغتيال بدقّة متناهية، ثم استدرجوا الحسيني إلى بيت أحد الشخصيات الفلسطينية وسط غزة، وجرت تصفيته في (21/10/1971)، وسعى في وقتها كثيرٌ ممن سوّلت لهم أنفسهم للتخلّص من الحلبي، وتصفية التنظيم بشكلٍ نهائي.
أخرجت حروفها قائلة: "آآآه يا إمّي.. قبل أيام كانت ذكرى استشهاده، يوم ثقيل وصعب جدًا علي، لا سيّما أنّ أحد القاتلين ما زال على قيد الحياة حتى اللحظة".
تنظيم "قوات التحرير الفلسطيني" كان قائمًا على رأس هرمي، يقوده شخص واحد فقط، وبعد اغتياله أضحى التنظيم في مرحلة "الضعف"، وكوْن "الحلبي" حاضنة الأسرار في مملكة "الحسيني"، سعت إلى لملمة القوات من جديد، وتولّت القيادة، وحصلت على "الختم" الذي بمقتضاه يتم التعامل مع جميع الأمور الرسمية.
"من هنا بدأت الملاحقة الفعلية من الاحتلال وبعض الخونة"، تقول الحلبي، وتستحضر مشهدًا وقت أن كانت تختبئ في منزل أحد أفراد التنظيم، تتابع: "حضر أحد العملاء إلى البيت، وطلب من صاحبه أن يدلّه على مكان وجودي، واسمي الحقيقي، لكنّ الأخير رفض، وأخبره أنّه لا يعرفني قطعيًا".
وفي اليوم التالي، وصلها خبر اعتقال الاحتلال لوالدها وجميع أفراد أسرتها؛ فسعت إلى تعقّب أخبارهم، والتعرف على مكان تواجدهم، وتنفيذ عمليةٍ تخلصهم من فكِ (إسرائيل).
لحظة الاعتقال
في يدها السلاح، وأمامها طريقٌ وعر، ملآى بالعيون التي تترصدها، وبعض عثرات الطريق، "لكني قطعت مسافة ليست بسيطة للوصول إلى بيت أهلي، وقبل دخولي المكان راقبته فترة من الزمن، وظهر عليه أنّه مهجور". تقول الحلبي.
وتشير إلى أنّها سعت إلى معرفة من في البيت، فألقت بحجرٍ صغيرٍ على شبّاكه لتنظر إليها شقيقتها التي اتفقت معها على هذه الإشارة، لكنّ جنود الاحتلال نصبوا لها كمينًا على بعد كيلو متر، وعشرات الآليات العسكرية والجنود حاصروها وبدأوا بالنداء عليها أن تسلّم نفسها.
تساءلت مع نفسها "كيف يمكنني التخلّص منهم"، لكنّها قررت في نهاية المطاف أن تضع سلاحها من يدها في مخبئ بجوارها، و "كأنّها لا علاقة لها بأي حادث".
مكبرات الصوت تخرج من جيبات الاحتلال "سلّمي نفسك.. المكان محاصر"، فاستهترت بنداءاتهم ثم سألتهم ساخرة، "ما القصة، لماذا كل هذه الضوضاء؟"، ولم يكن منهم إلّا أن "وضعوا الكلبشات في يدي، وحملوني ووضعوني في الجيب العسكري". تقول الحلبي.
لحظة اعتقال الحلبي كانت بمثابة نصرٍ لجيش الاحتلال "الإسرائيلي" الذي لم يتمالك نفسه، وأعلن عبر إذاعته أنّه جرت عملية الاعتقال بنجاح.
وصلت إلى إحدى الزنازين، وكان الاحتلال يهدف إلى ادخالها من أمام زنزانة والدها، تقول: "وجدته مشبوحًا كما ولدته أمّه، والدم ينساب من جسده، وأربعةٌ من الجنود يضربونه، وآخرون ينتظرون ليحلوا مكانهم".
أمسك جندي برأس "عُمر الحلبي" وهو مشبوح، ثم صرخ في وجهه باللغة "العربية المكسرة": "شوف مين مسكنا وجبنا".
صرخ "عُمر" على ابنته فاطمة بعالي صوته وهو يضرب بيده التي كبّلها الاحتلال بالجنازير؛ على ظهره ويقول: "يابا.. أنت من صلبي، أنت ابنة الحلبي، ايّاك وأن تعترفي على أحد، إن لم تستطيعي.. وعذبوكِ فاقتلي نفسك قبل أن تعترفي".
كانت لكمات جنود الاحتلال قويّة إلى الحد الذي ذهب صوت "عُمر" به، وبقيت كلماته في ذهن "فاطمة" تتردد حتى اللحظة.
إلى هنا ينتهي الجزء الأوّل من حكاية "فاطمة" قائدة قوات التحرير الفلسطينية، وندعوكم لمتابعة الجزء الثاني الذي نستعرض فيه أساليب التحقيق معها، وفترة السجن الأولى والثانية، وابعادها إلى أكثر من دولة عربية، واتصال رئيس العراق الراحل صدام حسين بها، وطلبه منها "العراق يرحّب بكِ.. فإن جئتِ إليه فرشنا لكِ الأرض وردًا وياسمينًا".