رمى بهمومه خارج جسده الذي أنهكه التعب، ووضع رأسه على قدما أمّه، ثم تلحّف بكفة يدها على وجهه، وقبّلها ظهرًا وباطنًا، ونظر إلى عينيها وسألها: "ليش بيزغردوا للشهيد"، أجابته وابتسامة تملأ تقاسيم وجهها: "لأنّ أمّه بتكون رافعة رأسها فيه"، سمع حديثها، فمازحها قائلًا: "لمن أستشهد راح تزغرديلي.."، لم يكمل سليمان شاهين جملته حتّى وضعت كفة يدها على فمه.
"أسكتّه لأنني شعرت بوخزةٍ في قلبي"، تقول أمّ إسماعيل -والدة سليمان-، وتستحضره طفلًا وقت أن عاد من مدرسته في السادس الابتدائي، يخبرها بما سمعه من مدرس التربية الإسلامية؛ حول كرامة الشهيد، فوعدها: "سأشفع لكِ ولأبي وجميع أخوتي إن تقبلني الله في الفردوس مع الشهداء".
يتسلل صوت ضحكتها إلى سمّاعة الهاتف وهي تقول: "اشترى لي هاتفًا، وكان يعطيني صوره وهو يرتدي الكوفية، ويرفع إشارة النصر، ثم يطلب مني أن أتعلم الزغاريد حتى أستقبله بها إن صحّت نبوءته".
اشتد عود سليمان، وزاد حقده على "عنصرية" "إسرائيل"، تقول أمّه: "كان يتمزّع غضبًا عند رؤيته للصغار وهم يموتون برصاص الاحتلال".
الوداع الأخير
"علبتا شوكولاتة" كانتا حكاية الوداع والعهد الذي تلقاه سليمان من أمّه، بعدما أحضرهما لطفلته الصغيرة، ووضعهما في يدي والدته، وقال لها: "طعميهم لطفتي الصغيرة.. حطيّتها في رقبتك.. أشعر أنّ أجلي اقترب".
تنهيدتان متلاصقتان أخرجتهما أم إسماعيل، ثم أردفت: "ربنا يصبر جميع أمّهات الشهداء..".
"وكأنّه علِم أنّ نهايته اقتربت" تقول والدته، وتضعنا في صورة المشهد الأخير عشية استشهاده، "ذهب إلى بيت شقيقته المقربة من قلبه-براء-، وأخبرها أن تنتظره ليأكلا الطعام معًا في بيت زوجها، ونام في بيتها، ثم قبّل جبينها وغادر".
ومع اشراقة صباحٍ جديد، عاد سليمان إلى بيته، وطبع قبلة على جبين أمّه، وطلب رضاها وغادر المكان.
"سمعت بالأخبار عن عملية دعس، فانفرجت أساريري، وأكملت تجهيز الفطور للأولاد في البيت.." ثم تتوقف أم إسماعيل عن الحديث، وبعد ترديد كلمة "ألو" عليها، أكملت: "بعد دقائق أعلنوا عن استشهاد سليمان عادل شاهين (20 عام) في عملية دعسٍ استهدفت 4 مستوطنين".
كان الخبر صادمًا للعائلة، وأوّل ما رددته الأم: "إنّا لله وإنّا إليه راجعون"، لكنّ والده الذي وصله نبأ الاستشهاد أثناء تواجده مكان عمل ابنه في سوق الخضار، ما كان منه إلا أن يحتضن عربة "فراولة" نجله، وبدأ يردد: "غير معقول.. لا أصدق.. سليمان..!".
تتابع أمّ إسماعيل: "كان قدما والده وروحه التي ترافقه في كل شيء.. رغم وجود عشرة أولاد لي، لكنّ حياتي تتمثل بسليمان؛ وأعيش الآن ميّتة".
فلسطين يتيمة
بدأ حديث الأم يتسارع شيئا فشيئا تقول: "تعرض سليمان للإصابة مرتين بالرصاص المعدني مؤخرا، إحداهما في يده والأخرى في ساقه، ولم يُخبرنا بذلك كي لا ينتابنا القلق عليه".
حتى صغيرته "فلسطين" بعمر (9 أشهر) لم تعد تقبل على أحدٍ بعد استشهاد والدها، تقول زوجته هديل: "كأنّها تشعر أنّ والدها لم يعد موجودًا".
ورُغم الألم الذي يتسطّر في روح أم إسماعيل؛ إلّا أنّها تقسم بالله أنها لن تذرف دموعهاّ، تقول: "أمست دمعتي متحجرة.. ولن أطلقها حتى أقبل من جبينه متل ما باسني.. لكن لعنة الله عليهم ما أعطونا جثمانه الطاهر، ومحتجزينه عندهم".
وانضم الشهيد شاهين إلى 109 شهداء استشهدوا في انتفاضة القدس الحالية، بحسب إحصائيات وزارة الصحة الفلسطينية، التي بينت حصيلة المواجهات منذ بداية انتفاضة القدس مطلع أكتوبر الماضي.
ويشار إلى أن الشهيد سليمان شاهين قد انضم إلى قائمة من 43 شهيدا تحتجز سلطات الاحتلال جثامينهم وترفض تسليمها إلى عائلاتها.
أم إسماعيل: لن أبكي ابني الشهيد حتى استلم جثمانه
الرسالة نت _ محمد أبو زايدة