تحت وقع الضربات المتلاحقة من الاحتلال الإسرائيلي، التي أشعلت انتفاضة القدس لتضع الاحتلال والسلطة في مأزق معاً، يحاول الرئيس الفلسطيني محمود عباس الخروج من عنق الزجاجة بالقفز عن الواقع الفلسطيني واللجوء إلى بعض الاجراءات الدولية والتي كان آخرها الحديث عن طلب الحماية الدولية.
ويأتي هذا المطلب بالتزامن مع الذكرى العاشرة لاعتماد وثيقة "مسؤولية الحماية" التي تشكل حجر الزاوية في اعتماد مجموعة مبادئ توافق عليها المجتمع الدولي، من خلال إقرار الوثيقة في الجمعية العامة عام 2005، بهدف منع جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية.
مطلب الحماية الدولية الذي تكرر على لسان الراحل ياسر عرفات مع اندلاع احداث انتفاضة الاقصى ويتجدد اليوم على لسان عباس مع اندلاع انتفاضة القدس يطرح تساؤلات حول ماهية الحماية الدولية وماذا تريد الرئاسة الفلسطينية من هذا المطلب؟ وإلى أي مدى يمكن أن يخدم الشعب الفلسطيني أو ان يتحول إلى سيف مسلط عليه؟ وهل من امكانية لتطبيقه مع شعب تحت "احتلال وجودي"؟
عريقات: نعرف تماما أن هذا المشروع لن يمر في مجلس الأمن
مع العلم أن لدينا نموذجا من الحماية الدولية طبق في مدينة الخليل عام 1994 بعد المجزرة التي ارتكبها اليهودي باروخ غولدستاين، داخل الحرم الإبراهيمي، حيث اعتمد مجلس الأمن القرار 904 الذي نص على "اعتماد إجراءات لضمان سلامة وحماية المدنيين الفلسطينيين في كافة الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن بين تلك الإجراءات، حضور دولي أو أجنبي مؤقت" استنادا إلى اتفاقية انسحاب القوات الإسرائيلية من منطقة غزة وأريحا، والملحقة بإعلان المبادئ حول اتفاقية الحكم الذاتي المؤقت، الموقع بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني بتاريخ 13 سبتمبر 1993.
تجربة فاشلة
ومن المهم الاشارة إلى ان السلطة لم تستثمر نموذج الحماية الذي طبق في الخليل لتعزيزه وتعميمه على باقي الاراضي الفلسطينية، كما أن القوات التي تواجدت في المدينة فشلت في تحقيق مهمتها والمنحصرة في "خلق شعور بالأمان بين الفلسطينيين في الخليل"، وفق نص الاتفاق النهائي الذي وقعه بتاريخ 21 يناير 1997 صائب عريقات عن الطرف الفلسطيني و"إيتان بنتسور" عن الاحتلال.
والملاحظ أن طرح مطلب الحماية الدولية للمرة الأولى عام 2000 وتجديده في الوقت الراهن تزامن مع اندلاع انتفاضتي الأقصى والقدس وهذا يقودنا إلى نتيجة واحدة وهي فشل مشروع التسوية، بدليل أن الرئيس عباس صرح في أكثر من خطاب له: "وصلنا لحائط مسدود".
وقد علمت الرسالة من مدير مكتب صحيفة القدس العربي في منظمة الأمم المتحدة د. عبد الحميد صيام أن طلب الحماية الدولية كان قد بعث به الرئيس الفلسطيني في رسالة رسمية إلى الأمم المتحدة في صيف عام 2014 وبالتحديد أثناء العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة.
وذكر صيام للرسالة من واشنطن أن رئيس مجلس الأمن، الممثل الدائم لإسبانيا رومان أويارزون ماركيزي، طلب بدوره من الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، أن يقدم للمجلس الوثيقة التي أعدتها الدائرة القانونية في المنظمة الدولية، بعد تلقي طلب الحماية من الرئيس الفلسطيني.
وأشار إلى أن رئيس مجلس الأمن كان قد وزعها بعد ذلك بتاريخ 21 يوليو 2014 كوثيقة رسمية يطالب فيها "بوضع أراضي الدولة الفلسطينية تحت نظام الحماية الدولية، التابع للأمم المتحدة، لتحقيق هدف تأمين الحماية للشعب الفلسطيني".
وأوضح صيام أن الوثيقة مكونة من 42 صفحة، وتحتوي على مراجعة لعدد من "سوابق الحماية" التي اضطلعت بها كل من عصبة الأمم والأمم المتحدة.
وهنا كشف صائب عريقات أمين سر منظمة التحرير للرسالة أن الإدارة الأميركية أبلغتهم رفضها إنفاذ الطلب.
ويرجع راجي الصوراني الخبير القانوني ورئيس المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان الرفض الامريكي لكون المطلب يعني عملياً ترسيم الحدود وقيام دولة فلسطينية على حدود 67 بما فيها القدس، "ولذلك من المستحيل ان تقبل (إسرائيل) واميركا بوجود حماية".
دبور: كل نماذج الحماية التي طبقت في العالم لا تصلح للحالة الفلسطينية
وأوضح أن (إسرائيل) لم تسمح بتوسيع نطاق نموذج الخليل وتعميمه على الاراضي الفلسطينية، بسبب أن المراقبين الموجودون هناك يقومون بتدوين تقارير وتقديمها للأمم المتحدة.
ويضيف الصوراني "عمليا، (إسرائيل) لم تعترف بانها دولة احتلال سوى 43 يوما بعد احتلال الاراضي الفلسطينية عام 1967 وعادت بعدها لتتراجع، وصنفت الاراضي الفلسطينية بأنها مناطق متنازع عليها او اراضي مدارة وبالتالي لا تنطبق عليها اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بالأراضي المحتلة.
واعتبر أن الحماية الدولية خطوة قانونية سياسية بحاجة لقرار وإرادة من المجتمع الدولي.
لكن أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الاسلامية والمتخصص في العلاقات الدولية د. أمين دبور رأى أنه لا امكانية او فائدة من المطالبة بالحماية الدولية، خاصة أنه لا يلقى قبولاً من المجتمع الدولي؛ "لان اميركا هي التي تعيق تطبيق اي قرار له علاقة بالقضية الفلسطينية في المؤسسات الدولية".
وتطرق دبور إلى إشكالية تتعلق بالوضع الفلسطيني الداخلي وتكمن في عدم وجود ارادة واستراتيجية واحدة تجمع بين المقاومة والعمل السياسي لاستثمار المقاومة وترجمتها لنتائج سياسية".
واعتبر أن حالة الانقسام بين البرامج السياسية عائق اساسي أمام هذا المطلب فالقيادة السياسية لم تستطع حتى الان استثمار المقاومة وترجمتها إلى نتائج سياسية، مؤكداً أن مطلب الحماية الدولية له بريق جميل وجرى تطبيقه في اكثر من دولة وحقق نتائج ايجابية لكن امكانية تطبيقه واسقاطه على الوضع الفلسطيني مهمة صعبة للغاية.
وقال دبور "ليس لدينا القدرة على الضغط لإجبار المنتظم الدولي على الاخذ بآرائنا، بخلاف دول كثيرة استطاعت ان تفرض على العالم توفير الحماية لها، مثل فيتنام والجزائر".
(شاهد ما شافش حاجة)
وعلى ذكر الدول التي نجحت في استقدام حماية دولية، فإن "الرسالة" علمت أن الوثيقة التي أعدتها الدائرة القانونية في الأمم المتحدة وبعثت بها إلى السلطة الفلسطينية، تضمنت 22 حالة طُبقت منذ عام 1981 إلى الآن.
وأبرز هذه الحالات، أوردها صيام، وهي لجزر تيمور الشرقية (1999- 2002) الخاضعة للبرتغال عام 1960، وصنفتها الأمم المتحدة على أنها "أراض لا تحكم نفسها"، وأن من حقها ممارسة "حق تقرير المصير" بعد انسحاب الاستعمار.
وقد بقيت الإدارة المؤقتة لغاية إعلان تيمور الشرقية دولة مستقلة في 20 مايو 2002، وبالتالي استطاعت المنظمة الدولية من خلال قرارات مجلس الأمن، تأمين الحماية للشعب في تيمور الشرقية لغاية الاستقلال، وتعتبر تجربة تيمور الشرقية من أنجح نماذج الحماية في العصر الحديث، وفق صيام.
وفي المقابل، صنّف صيام، وهو محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة (روجرز نيوجرسي - Rutgers University-New Jersey) الأمريكية، الحماية الدولية في الخليل على أنها نموذج فاشل "وتافه، تم تفريغه من محتواه فورا، عندما خسر الدعم السياسي واللوجستي في مجلس الأمن، وترك الأمر للقاتل والضحية أن يسوّيا الأمور بينهما، وانتهى الأمر إلى نموذج عادل إمام (شاهد ما شافش حاجة)"، وفق تعبيره.
وقال إن السلطة الفلسطينية قبلت أن تفرغ القرار من أي محتوى أو قيمة أو أهمية "وكأن المجموعة عبارة عن وحدة كشافة"، مضيفا: "ما دامت الولايات المتحدة تجلس في مجلس الأمن وتتمتع بحق الفيتو، لن يتم اقرار حماية للشعب الفلسطيني (...) المشكلة هي الولايات المتحدة وليست (إسرائيل)".
وتساءل صيام: "لماذا القيادة الفلسطينية غير قادرة على رؤية هذه الحقيقة؟".
عريقات أجاب بالقول: "نحن نعرف تماما أن مثل هذا المشروع لن يمر في مجلس الأمن، وأبلغتنا بذلك الادارة الأمريكية، لكن لن يمنعنا عن المحاولة، وطرق أبواب الشرعية الدولية".
وأضاف: "نحن نمارس كل الوسائل؛ لنلفت أنظار العالم بأننا شعب ضحية، فعندما تطلب انت حماية دولية وتقصي حقائق، ثم ترفضها (إسرائيل)، على العالم ان يسألها لماذا تخشى لجان التحقيق وتواجد الفرق الدولية للحماية".
وبدوره، أكد المختص في العلاقات الدولية، دبور، أن كل نماذج الحماية الدولية التي طبقت في العالم لا تصلح للواقع الفلسطيني؛ "لأننا أمام احتلال من نوع فريد وليس احتلالا تقليديا".
صيام: السلطة فشلت في استثمار نموذج الحماية في الخليل وأفرغته من محتواه
وقال: "الخليل دخلتها قوات نرويجية وجاءت للحماية وكان دورها يقتصر على كتابة التقارير عن اي اختراقات من الجانبين، ولم تنجح في حماية الفلسطينيين من اجرام المستوطنين؛ لان الصراع صفري ووجودي مع المحتل الاسرائيلي، وكل طرف يريد انهاء الاخر".
وفي معرض ردّه حول ما إن كانت الحماية الدولية التي تطلبها السلطة الفلسطينية تحاكي نموذج الخليل، قال عريقات: "لا، ليست مثل التواجد الدولي في الخليل المفوّض فقط بإعداد التقارير وتقديمها للأمم المتحدة، إنما وضع قوات دولية في كل الأماكن الرئيسية، تكون مسؤولة عن الشعب الفلسطيني، وهذا سيخدمنا كثيرا".
وعندما تساءلنا عن الخطوات التي تسبق طلب الحماية الدولية ولم تقْدم عليها السلطة، من قبيل إلغاء اتفاق أوسلو، وإعادة القضية الفلسطينية إلى المجتمع الدولي للبتّ فيها، اكتفى عريقات بالقول: "القانون الدولي غاية في التعقيد، وفلسطين تثير قضية أن (إسرائيل) سلطة احتلال تمارس كل أنواع إرهاب الدولة المنظم، هذه هي الرسالة فقط لا غير".
وفي السياق، أكد دبور أن مطلب الحماية الدولية خطوة متقدمة يجب أن تسبقها خطوات على طريق تدويل القضية، تبدأ بإعلان عباس التخلي عن أوسلو، ثم إعلان العودة إلى المجتمع الدولي للنظر في القضية الفلسطينية، وبعدها طلب الحماية.
واعتبر أن تكرار الطلب من الرئيس عباس يدلل على حالة العجز التي وصل اليها، قائلا: "هو يريد اللجوء إلى المنتظم الدولي وعلى رأسه الامم المتحدة؛ للمطالبة بالحماية الدولية لكنه تجاهل ان قيادة منظمة التحرير قَبلت أن تتجاوز المجتمع الدولي ومؤسساته، وأن تبرم اتفاقيات مع الاحتلال بشكل منفرد، وعلى قاعدة ثنائية دون مرجعية عربية او دولية".
الهروب نحو التدويل
الحماية الدولية للشعب الفلسطيني أثيرت في كلمة الرئيس عباس في الجمعية العامة (28/9/2015)، وأمام مجلس حقوق الإنسان (28/10)، كما طالب بها وزير الخارجية رياض المالكي في مجلس الأمن بتاريخ (22/10).
وبين دبور أن الامم المتحدة لا يوجد لديها قوة لحماية قرارتها، كما ان مصالح الدول الكبرى التي تتحكم بهذه المؤسسات الدولية لديها تضارب مصالح مع الفلسطينيين.
وتساءل: "كيف يمكن الهروب من المفاوضات الى التدويل، والحاكم في الحالتين هي الولايات المتحدة، الداعم الأكبر للاحتلال الاسرائيلي؟".
الصوراني: الحماية تعني ترسيم حدود 67 ومن المستحيل ان تقبلها (إسرائيل) واميركا
وأوضح أن الهدف من طلب عباس الحماية في هذا الوقت، إنهاء الانتفاضة، لافتاً إلى أن عباس يريد من خلاله اظهار انه لا حاجة للانتفاضة وتقديم الدماء والأرواح، وانه بإمكان الفلسطينيين من خلال المؤسسات الدولية الحصول على حريتهم واقامة دولتهم دون تعب وتضحيات، وهذا، برأي المختص دبور، مغاير لمنطق الكون كله، ومغاير لكل تجارب الدول التي خضعت للاحتلال.
وذكر انه من حق الفلسطينيين التشكيك بنية عباس حول مطلب الحماية، الذي قد يستغله ضد الشعب الفلسطيني ومقاومته، "كما يحق للعالم أن يشكك في نيته الصادقة في المطلب، وينتظر لعله يُسقط المطلب او يتخلى عنه اذا قدّم له بضعة ملايين، وبالتالي العالم لا يثق به ولا بمطالبه".
ورأى أن المخرج الوحيد من هذا المأزق هو العودة لترتيب البيت الفلسطيني حول برنامج موحد، في سياقه مقاومة الاحتلال عبر وسائل عدة، منها اللجوء إلى المنتظم الدولي.
احتلال جديد
حماس "خصم سياسي" تتبنى برنامجا يتعارض مع الرئيس عباس وترفض وجود قوات دولية على الأراضي الفلسطينية، لأنها ترى في ذلك احتلالا جديدا.
إسماعيل الأشقر، القيادي في حماس قال لـ"الرسالة": "نشك كثيرا في أقوال أبو مازن وأفعاله ومطالبه، والجميع سمعه يصف التنسيق الامني بالمقدس، ويجاهر بتعاونه مع الاحتلال، ويقدم مصالح الاحتلال على مصالح شعبه، لذلك لا نثق به ولا بمشروعه".
حماس: نرفض استبدال احتلال بآخر
وأضاف: "فلسطين بعد الحرب العالمية الاولى وقعت تحت الانتداب البريطاني، وهو من اشكال الحماية الدولية، لكنها فعليا سلمتها لليهود، لذلك نحن لا نثق بالأمم المتحدة".
ولفت الأشقر إلى أن القرارات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية كثيرة، لكن لم يطبق منها شيء؛ لأن الاحتلال يعتبر نفسه فوق القانون، والمجتمع الدولي يتمسك بـ(إسرائيل) لأنها جزء من مصالحه.
وطالب القيادي بحماس، الرئيس عباس بالعودة الى البيت الفلسطيني، والعمل على توحيد الصف الداخلي، وتطبيق المصالحة، وبناء الجبهة الداخلية لتكون موحدة امام العالم "والارهاب الاسرائيلي".
وعلى ضوء ما تقدم، فإن السلطة الفلسطينية وبالتزامن مع انتفاضة القدس تواجه "أزمة سياسية كبيرة" تتعلق بوجودها، دون أفق، وأمام احتلال حوّل السلطة إلى جزء من منظومته الأمنية، كما ان الحماية الدولية خطوة متقدمة على طريق تدويل القضية وبحاجة لخطوات تسبقها فضلاً عن أن مبدأ تحصيلها بعيداً عن متناول السلطة في ظل مجتمع دولي أشبه بعربة تجرها الولايات المتحدة، ومن غير المستبعد أن يتم استحداث هذا السيناريو لاحقاً؛ لملء الفراغ الذي قد يحدثه انهيار السلطة، لكن على شكل قوات ادارة وليس حماية دولية.