على ذاك الحاجز الاسرائيلي خبأت رجفة يديها في جيبها الا أنها لم تستطع إخفاء قلبها المرتعش حينما رأته محمولًا بكيس بلاستيكي أسود اللون.. حاولت أن تحافظ على بقايا قوتها فأهدته زغرودة انهارت على إثرها وقد عاد قرة العين في قالب ثلجي!
تعلو تكبيراتها في أروقة مستشفى الأهلي بالخليل كلما لمحت زرقة جسده ثم تعود لتدفع وجهها على وجنتيه الباردتين علها تمده بشيء من الدفء لتعزي نفسها مرددة: "الله مدفيك يمه".
شوق أم الشهيد إيهاب مسودة المتراكم كما الجليد فوق جثمانه كان حاضرًا خلال مشاهد لقاء أهالي جثامين الشهداء المحتجزة كما صدمة الاستشهاد الأولى وقد وصل الشهيد الثائر بعد احتجاز الاحتلال لـ 23 منهم شهرين أو يزيد، تعود لـ17 شهيدا من الخليل وضواحيها.
تباعًا وصل الفخر والوجع عبر مقاطع الفيديو لقبلة الوداع التي جمدت على جبين شهداء انتفاضة القدس والتي حاولت أم الشهيد خلالها تغطية أطراف ابنها من صقيع الموت الا ان محاولاتها باءت بالفشل.
ما فتئت والدة الشهيد مصطفى فنون تضع يدها على رأس جثمان ابنها وتلاوة ما تيسر لها من آيات الذكر الحكيم لتدفئ جسده بالقرآن ولتهدئ من حزنها وقد نجحت الأم الفلسطينية في ذلك على مدار السنوات.
بجوار والدة فنون أم شهيد أخرى تتناوب وزوجها تغطية جثمان ابنهما ببطانية رمادية اللون تبكي لوصول جثمان متجمد جديد وتزغرد تارة أخرى لأنها على يقين بأن أرواحهم ونجلها عند ربهم هناك تنعم بالدفء والسلام.
دفء لقاء الثكلى الفلسطينية لم يبدد برد الجسد الذي انكمش تحت تأثير درجات حرارة الثلاجات الإسرائيلية التي حاولت أن تطفئ لهيب الانتفاضة بأساليبها اللاإنسانية الا أن قوة الانتفاضة هي من دفعت لتسليم جثامين شهدائها.
ملف تسليم جثامين الشهداء والذي قد شارف على الانتهاء مع تسلم الجثامين الخميس الماضي، حيث لفتت الهيئة العامة للشؤون المدنية الفلسطينية، في بيان صحفي أنه تبقى جثمانان من جثامين شهداء الضفة الغربية، فضلاً عن جثامين شهداء القدس الـ 19.
بين جثماني شادي وفادي خصيب جلست الأم تبكي بحرقة وتوزع القبلات بينهما بالتساوي كما كانت تفعل في حياتهما، وتزفر الآه وجعًا بشكل مضاعف وقبل حملهما على الأكتاف أهدتهما رضاها ودعوة بالجنة لتجمعها بهما.
أم الشهيدين خصيب احتسبتهما شهيدين كما فعل ابنها فادي يوم أن استشهد شقيقه الأكبر شادي فثأر له ولحق به.
آخر جثمان وصل كان للشهيد عز الدين رداد من طولكرم، "بزفة عريس راح نودعه" كان يردد والده في حين انشغلت أمه بتدفئة أطرافه بيديها وتقبيل راحتيه كما كانت تفعل في صغره يوم أن جاء لحضنها يحبو الا أنه عاد لها محمولًا على الأكتاف متجمدًا!
بين الدعوات لها ان يربط الله على قلبها ويلهمها الصبر تمتمت أخريات وجعًا من حولها: "كيف ستقبله هو قطعة جليد .. كيف لقلبها أن يصمد وقد مر من هنا ابنها الثائر وترك شيئا من رائحته والكثير من العزة ثم عاد للغياب!
أم الشهيد فضل القواسمي أجابت على تلك التساؤلات وقد رزقها الله السكينة والصبر فودعت جثمان ابنها برشه بالورود خلال تشييع جثمانه مع 13 شهيداً في مدينة الخليل التي شارك فيها عشرات الآلاف وتعانقت خلالها رايات الفصائل كما جثامين الشهداء.
أمام كل جثمان صورة للشهيد مبتسمًا ابان حياته في حين تلتقط له السماء صورة أخرى وهو ينظر لمكانته في الجنة كما جثمان الشهيد مهدي المحتسب الذي وسد التراب مبتسما.
وعلى وقع نغمات" بالدم يا أقصى يرخصلك الغالي" رفعوا شارات النصر وتشابكت أيادي ذوي الشهداء كما جثامين أبنائهم في الجنازة ليختموا تقبل التهاني بدفن جثامين أبنائهم في مدن الضفة أملًا أن يعودوا شهداء القدس لذويهم.