غزة- فادي الحسني "الرسالة نت"
قد لا تحمل الملامح الحالية لمخيم الشاطئ للاجئين، شيئاً من ملامحه القديمة التي نشأ عليها بعد نكبة 1948 بعام واحد، لكنه لا يزال شاهداً على بؤس قاطنيه.
زهقت أرواح الكثير من كبار المخيم، ولكن بالكاد اتسعت شوارعه الضيقة لحمل النعش والسير فيه، أو لإقامة سرادق العزاء نظراً لتلاصق مبانيه البالية، ومع هذا استطاع اللاجئون الأطفال اللعب في حاراته وأحيانا خوض معارك بين أزقته بأسلحتهم الخشبية.
ويقع المخيم الساحلي إلى الغرب من مدينة غزة، وتبلغ مساحته نحو 447 دونماً، أما عدد سكانه فقد بلغ 78768 نسمة,حسب إحصاءات العام 2003.
يذكر كبار المخيم ممن أسعفتهم الذاكرة في استحضار الماضي، أن اللاجئين كانوا يقطنون في غرف ضيقة من "القرميد"، أقامتها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا" لاحتضان المشردين الذين تعود أصولهم إلى قرى مختلفة، أبرزها: حمامة، والجورة، والمجدل، ويافا، واسدود.
يقول الحاج علي العبد في أواخر عقده السادس :"إن الوكالة أقامت المخيم لإيوائنا(..) أوضاعنا كانت متردية، أقمنا في غرفتين من القرميد آنذاك".
ذاق لاجئو المخيم الأمرين، لكن عزاءهم الوحيد كان الحلم بالعودة إلى ديارهم التي استولى عليها الاحتلال الإسرائيلي وهجرهم منها، فهم لا زالوا محتفظين بأوراقهم الثبوتية وبعقود الأراضي ومفاتيح البيوت.
واحتوى "الشاطئ" على مدرسة واحدة عقب نشوئه سميت باسم مديرها آنذاك "حسين خيال"، ثم تعددت فيما بعد مدارس المخيم، إلا أن عيادة طبية واحدة أقيمت فيه فقط، ومخفرا للشرطة أطلق عليه اسم "نقطة أبو هاشم".
لاجئو المخيم كانوا يقتاتون على المعونات التي قدمتها وكالة الغوث، وهي وفرت للمئات من الأسر مأكلا وملبسا، وأقامت لهم مركزا "للتموين" على أطراف المخيم من الناحية الجنوبية الغربية، إضافة إلى مركز تغذية للأطفال الذين يعانون النحافة.
ورغم ما حاولت "الأنروا" تقديمه من مساعدات لأولئك المشردين، إلا أنهم كانوا يضطرون لقضاء حاجتهم عبر دورات مياه "صفيحية" أقيمت في شوارع المخيم، وذلك لافتقار بيوتهم لتلك الدورات.
ويقول العبد: "كان الواحد منا عندما يريد أن يقضي حاجته، يخرج وفي يده إبريق الماء، متجها لدورة المياه الخارجية، المقامة في الشارع..حقا كانت حياة مرة".
عاش أهالي المخيم بلا كهرباء لكن هذا لم يمنع لا كبارهم ولا صغارهم ولا حتى نساءهم، من السمر ليلاً مشعلين الأسرجة والقناديل، وأحياناً يسمرون على ضوء القمر، كما يقول اللاجئ العبد.
لكن الحال مع الماء كان مختلفا، حيث وفرت وكالة الغوث –كما يقول العبد- صنابير مياه عامة في الشوارع اصطلح عليها السكان "الطرمبة"، وكان يتدافع عليها الناس لتعبئة الأوعية ومن ثم إفراغها فيما سمي "المزيرة" وهي وعاء إسمنتي أقيم داخل البيوت كخزان للمياه.
وعن وسائل النقل التي كانت تقل لاجئي المخيم من مكان لآخر، يقول العبد: "كنا نستقل الباصات الكبيرة..لم تكن هناك وسائل نقل غيرها".
استمر المخيم على حاله حتى العام 1963، بعدها شرعت وكالة الغوث بتوسيعه شمالاً، وذلك للاكتظاظ السكاني، فأقامت بيوت قرميد جديدة وأطلقت على التجمعات المختلفة اسم "بلوك"، فتعددت وأصبح هناك "بلوك "1 وصولا "لبلوك 12"ويزيد.
في العام 1967 إبان حرب (الأيام الستة) بين إسرائيل والدول العربية، حفر قاطنو المخيم حفراً داخل بيوتهم للاحتماء فيها من بطش الصواريخ "الإسرائيلية".
يبتسم اللاجئ العبد عندما استذكر ما حدث مع أسرته في ذلك الحين، حين قصفت الطائرات منطقة ما بينما كانوا يعدون الخبز على موقد النار، فسقطوا جميعا في الحفرة وتناثرت الأرغفة.
كان أهالي المخيم يجتمعون على الود والمحبة، ويقول اللاجئ العبد: "عندما كان احد يمرض من الجيران، جميعنا كان يلتف حوله..كنا نتشارك في الأفراح والأتراح".
في المخيم كان حلاقين اثنين، لكنهم كان لديهما من الإمكانات الكثير، حيث كانوا بمثابة طبيبين أسنان، وكذلك "طهور المواليد"، وغيرها من المهن المتعلقة بالطب.
أما عملية وضع النساء مواليدهن، فكانت تتم عبر عرف بـ"الداية".
ولم تشهد بيوت القرميد تطوراً إلا مع بداية الثمانينيات، حيث جرى تأسيس البنى التحتية للمخيم، فأنشأت شبكات مياه وصرف صحي، وجرى توصيل الكهرباء للبيوت، ولجأ البعض إلى تطوير أسقف تلك البيوت فحولها لـ"الأسبست".
كان تصريف مياه الصرف الصحي، باعثا على التقزز، حيث شهدت شوارع المخيم قنوات الصرف تسير على جانبيها مكشوفة، الأمر الذي كان يؤثر تأثيرا مباشرا على صحة لاجئي المخيم.
وفي الوقت الذي عانى فيه المخيم من الكثافة السكانية المهولة، لجأ المئات من قاطنيه إلى مشاريع التوطين مثل مشروع "الشيخ رضوان" المقام شمال مدينة غزة، بغرض التوسع، ويصف العبد هذا الأمر بأنه "محاولة إسرائيلية لتفريغ المخيم من ساكنيه".
وربما كانت تلك المرحلة عصرا ذهبيا بالنسبة لشباب المخيم الذين انتقلوا للعمل داخل الأراضي المحتلة عام 1948، حيث ساهموا في إنعاش الحالة الاقتصادية، وبعضهم رمم مبانيه، وآخرون أعادوا بناء بيوتهم بالخرسانة المسلحة.
ويقول اللاجئ العبد: "الشبان كانوا يعملون في داخل إسرائيل، وقلة عملت في الصيد، مما ساهم في إنعاش حالة الاقتصادية التي كان يحيها اللاجئون".
في أواخر الثمانيات ومع انطلاقة "انتفاضة الحجارة" مثل مخيم الشاطئ رمزا للمقاومة الشعبية ضد الاحتلال.
عقب توقيع اتفاقية أوسلو 1993 وتولي السلطة مقاليد الحكم في الأراضي الفلسطينية، جرى إصلاح البنية التحتية للمخيمات، فطرأ تحسنا طفيفا على شوارع مخيم "الشاطئ"، لكنها ظلت تعاني من أزمة سيول مياه الأمطار، التي كانت تجرف في بعض لأحيان البيوت المهترأة.
الجدير ذكره أن قادة كبار قطنوا المخيم منهم، زعيم حركة حماس ومؤسسها الشهيد أحمد ياسين، وخليل القوقا، وسعيد صيام، أحمد بحر نائب رئيس المجلس التشريعي، فيما لا يزال يقطنه رئيس الوزراء إسماعيل هنية.
ولا يزال يحتفظ "الشاطئ" بشيء من معالمه القديمة، فالأزقة تختزل ويلات ومآسي سنوات مضت، لكنها تظل تحمل اللاجئين على الصبر علهم يعودون يوماً من حيث أتوا.