كلماتٌ وقعت على مسمعه من خطيب الجمعة، لا تزال عالقة في أذنيه منذ كان عمره اثنين وعشرين عامًا، حينما ردد الشيخ "بأن الشهيد مثواه الجنة"، فاستقرت الطمأنينة في قلبه، وأصبح يسعى لأن يكون صاحب المقولة التي غيّرت مجرى حياته، وأشعلت شرارة التزامه وحبّه للجهاد، فحاول الانضمام إلى "الفدائيين" آنذاك إلّا أنّه تمّ رفضه، فكتب "مناشير" بشكل شخصي، ووزّعها على أبناء حيّه باسم "الجبهة الشعبية"، وكان أوّل عملٍ له في طريق المقاومة.
يقول الأسير المحرر محمد الشراتحة: "كُنت أنتقد فكر جماعة الإخوان المسلمين؛ حتّى صلاة الجمعة في أحد أيّام أكتوبر عام 1979، والتي غيّرت بوصلة حياتي، فبدأت التقرّب منهم، وأصبحت أميّز بين صاحب الحق والباطل.
وبعدما أصبح الشراتحة من رواد المساجد، عرض عليه "محمود أبو خوصة" الانضمام للجهاز السري التابع لجماعة الإخوان المسلمين في غزة، وأوكلوه بمهمّة "جمع الأسلحة وتهريبها من سيناء إلى القطاع"، فأبدى موافقته سريعا لأن حلم الصغر بالعمل الفدائي قد تحقق بهذه المهمّة.
انسجم ضيفنا في أداء المهام الموكلة إليه، وواصل إدخال السلاح بطرقٍ سرية، وفي إحدى الرحلات أحضر كمية من الذخيرة قدّرها لنا بـ (7300 رصاصة مسدس)، وأثناء عودته إلى غزة فوجئ بكمين "إسرائيلي".
يقول: "أوقفوني وفتشوا السيارة وعثروا على الذخيرة، ثم استجوبوني في مستوطنة بسيناء، وحققوا معي بطريقة ظالمة"، ويصف مشهد التحقيق متابعًا: "حفروا لي قبرًا، ووضعوني داخله مرغمًا، وصوّبوا مسدسهم على رأسي، وطلبوا مني الاعتراف وإلا أطلقوا الرصاص، لكنّني رفضت الخيانة، وتيقنت أنّهم لن يقتلوني؛ إلّا بعد نزع المعلومات مني".
ولأنّه كشف عن عناده أمامهم، اعتقلوه، وبدأوا جولة تحقيقٍ مكثفة في "سجن غزة المركزي" استمرت خمسة أشهرٍ وعشرين يومًا دون اعتراف، إلى أن ألقى قاضي المحكمة "الإسرائيلية" حكمًا عليه بالسجن لـ (3 سنوات)، ومصادرة سيارته، وأثناء نطق الحكم وصله خبرٌ من عائلته أنّ الله رزقه بمولوده البكر "نمر".
وبعدما أمضى الشراتحة محكوميته، خرج متحمّسًا لاستئناف العمل الذي نسج بداياته قبل الاعتقال، يقول: "في أوّل أيام حريتي عدت لتهريب الأسلحة إلى قطاع غزة، وعملت مع أبو ماهر تمراز-أحد مؤسسي المجمع الإسلامي بغزة-، وكان يملك بقالة بجوار مركز جيش الاحتلال في معسكر جباليا شمال القطاع، ويخزن بداخلها السلاح، واعتبرناه أكثر الأماكن أمنًا ولا يثير الشكوك تطبيقًا للقاعدة -أشد نقاط الضوء عتمة هي مركز الضوء".
"حفرت فتحة كبيرة في جدار السجن في محاولة للهرب لكنّ المخطط فشل"
وفي إحدى صفقات السلاح، اشترى الشراتحة (كلاشن كوف، ودكتريوف)،إلا أن هذه الصفقة كانت خدعة من المخابرات "الإسرائيلية"، باعته لأحد عملائها، ليتم اعتقالهم "متلبسين".
يتابع: "اشتريت السلاح، وتمّ اعتقالي للمرة الثانية في نوفمبر من عام (1984)، ومكثت في التحقيق 6 شهر، استخدمت خلالها "إسرائيل" عائلتي للضغط علي، لكنّهم فشلوا في انتزاع اعترافاتٍ مني".
وفي زنزانة التحقيق رقم (26)، التقى ضيفنا بالدكتور إبراهيم المقادمة -أحد قادة حماس-، وطرح على الشراتحة البيعة، لكنّ الأخير اشترط ذلك بمباشرة العمل العسكري.
وبعد فشل نزع الاعترافات من الشراتحة؛ حُكم عليه بالسجن (11 شهرًا)، التقى فيها "صلاح شحادة، وإبراهيم المقادمة، وأبو ماهر تمراز، ومحمد شهاب، وسلمان عيد، والشيخ أحمد ياسين".
وبعد أقل من شهرٍ على محكوميته، أجريت صفقة أحمد جبريل والتي أفرج خلالها عن نخبة من الجماعة الإسلامية، في حين بقي الشراتحة داخل السجن، إلى أن تنسم الحرية في أكتوبر (1985)، وأعيد اعتقاله بعد أشهرٍ بتهمة تهريب السلاح والمطاردين، من نقاط حساسة، وحكم عليه بالسجن لـ(9 أشهر).
التأسيس العسكري
ومع اندلاع انتفاضة الحجارة (1987)، التقى الشراتحة بالشيخ صلاح شحادة، ودار الحديث خلاله عن تأسيس المجموعات العسكرية، وبعد انتهاء المقابلة بأيام، وصلته رسالة من أحد الملثمين أثناء دوامه في حرم الجامعة الإسلامية التي عمل بها حارس أمن، مفادها: "مطلوبٌ منك تشكيل مجموعات للجهاز العسكري لحماس، ويكون مجالها عمليات خاصة".
"أسست مجموعتي، ونظّمت عبد ربه أبو خوصة، ومحمد نصّار، ولم أعرّف أحدًا منهم على الآخر"، يقول الشراتحة ويشير إلى أنّ الحركة زوّدته بـ(5آلاف دينار أردني) للمجموعة.
يضيف: "طلبت من نصّار أن يجهّز نفسه لتنفيذ عملية خطف، فطلب منّي أن ينضم إليه شخصٌ آخر ليساعده في المهمّة، وتمّ تنظيم محمود المبحوح في المجموعة -اغتاله الموساد الإسرائيلي في دبي عام 2010".
عملية خطف
رسم ضيفنا مخططًا لعملية خطف أوّل "إسرائيلي" على يد المجموعة، يصف المشهد: "تمكّنت من مراقبة "الإسرائيلي"، وكان مهندسًا اسمه (أدي صباري)، واتّجهت ليلًا إلى مكان العملية لتوصيل السلاح، وكان عبارة عن (أم16، ومسدس، وسكين)، واصطحبت معي أبو خوصة".
حاولت المجموعة أسر اليهودي، لكنّه تمكّن من الهرب، فأطلقوا النار عليه وأصابوه بعدّة طلقات، وعقب هذه العملية، تلقى منفذوها الضوء الأخضر من القيادة؛ بممارسة العمل الجهادي المسلح تحت اسم "منظمة الجهاد والدعوة-مجد"، ولم يستمر هذا الاسم طويلًا حيث تمّ استبداله بـ"المجاهدون الفلسطينيون"، ومن ضلعه نشأت "كتائب القسام".
" السلطة أفشلت مفاوضات أجريتها مع الاحتلال للإفراج عن أسرى"
يتابع الشراتحة حديثه: "اتفقت مع أبو خوصة على تنفيذ عملية ضد مجموعة مستوطنين على الخط الشرقي لقطاع غزة، وبعد الرصد والمتابعة، تمكّنا من وضع مخطط لتصفيتهم، وكنا نمتلك (كارلو، وأم 16)، واستطعنا قتل مستوطنٍ واصابة آخرين".
وتوالت عمليات القتل وتهريب السلاح، إلى أن قرر ضيفنا تنفيذ عملية خطفٍ لجندي "إسرائيلي"، لتتم خلالها مبادلته بأسرى في سجون الاحتلال، فأرسل إلى مجموعته العسكرية، وأطلعهم على المخطط، واتفقوا على الموعد.
يقول: "جهزت مسدسًا وسكينين، واتفقت على أن يلبس محمود المبحوح محمد نصار ملابس اليهود المتدينين، ويقود الأوّل السيارة، بينما يكون الآخر مستعدا لإطلاق النار والتنفيذ ، وتمكنا من قتل (آفي سبورتس) وهو ضابط "إسرائيلي"، وعلمنا فيما بعد أنّه شارك في اغتيال أحد مؤسسي حركة فتح خليل الوزير في تونس".
استطاعت المجموعة قتل "سبورتس" برصاصة بين عينيه، واثنتين في صدره، واخفاء جثّته بعيدًا عن الأنظار، ليصاب بعدها الجيش بالتخبط لعدم إعلان أي فصيل عن مسؤوليته عن العملية.
وبعد (45 يومًا) أرسل الشراتحة رسالة تفصيلية عن حيثيات المهمّة للحركة، وطلب منهم (11 ألف دولار) تحضيرًا لمهمة جديدة، فباركت "حماس"، واستجابت لطلبه.
وفي الثالث من مايو 1989، رسمت المجموعة خطّة أسر جندي "إسرائيلي" جديد، وتمكّنت من قتل "إيلان سعدون"، ودفنه في نقطة مجهولة، والاستيلاء على سلاحه، وهو ما أدى لملاحقة عنيفة للمنفذين من قبل قوات الاحتلال وعلى أثراها أصيب الشراتحة بكسورٍ في يده وقدمه، وأثناء علاجه، تمكّن جيش الاحتلال من الحصول على معلومات، اشتبه من خلالها بأن الشراتحة من ضمن المجموعة، فحاصر بيته، واعتقله.
"حفر الاحتلال قبرًا لي، طلباً للاعتراف لكنني رفضت الخيانة"
ومع مرور الوقت، وتكثيف الاحتلال البحث عن الجنديين "جوًا وأرضًا"، كشفت التربة عن جثّة "آفي سبورتس"، وقد تجمّعت الكلاب الضالة على جثّته ونهشتها.
نزع اعترافات
"وصلت أوامر من وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك إسحق رابين للمحققين بنزع اعترافاتٍ من المجموعة، حتّى وإن كان المقابل استشهادهم جميعًا"، يقول ضيفنا إنه تعرّض لأشدّ أنواع التعذيب مع عائلته في سجون الاحتلال.
كانت الأدلّة التي ساقها الاحتلال ضد الشراتحة كثيرة، ومنها ما هو مؤكّد، فاعترف على بعضها تحت التعذيب؛ بما لا يضر من هم خارج السجن، وبقيت قصّة قتل وأسر الجنديين مخفية، حتّى حضر إليه أحد الضباط وقال له: "نعرف أنّك لا تريد الاعتراف لأنّك عنيد، ولن تسلمها إلا بأمر عسكري، ونحن سنأخذك إلى الشيخ صلاح شحادة ليعطيك أوامرًا بتسليم جثّة سعدون".
أخذوه إلى غرفة يجلس فيها قائد المنطقة الجنوبية اسحق مردخاي، واثنين من كبار وحدة "الشين بيت"، وقيادة مخابرات غزة، ومعهم الشيخ صلاح شحادة"، وفور رؤية الأخير لما أصاب الشراتحة جراء التعذيب، صرخ فيه قائلًا: "ما لك لا تنسى أننا خطفنا جنودًا بكامل سلاحهم وعتادهم، هوّن عليك فالحرب سجال، مرة لنا ومرة لهم، والأيام أمامنا".
سَرَت الطمأنينة في أوصال الشراتحة لكن عناد واستمرّ في عناده دفع الاحتلال بتهديد قيادات حماس داخل السجن بالترحيل إلى لبنان إن لم يعترفوا بمكان الجندي.
وأمام صمود الشراتحة وجد الاحتلال نفسه مضطرا لنقل "شحادة والشراتحة" إلى سجن عسقلان، وفرّقوهما فيما بعد.
وعاد ضيفنا للتحقيق، لكنّ هذه المرّة حقنوه بمادة "الأنسولين"، التي تستعملها المخابرات في القضايا الخطيرة والتي تسعى للوصول من خلالها على معلومات أمنية.
"طلبت مني القيادة تشكيل مجموعات عسكرية تختص بعمليات الخطف"
ويصف الشراتحة تأثير المادة بالقول: "تنزع حاجز الخوف، فيتكلم وكأنّه بين أصدقائه، ويتحدث بالحقيقة، ويستمر لـ(10) دقائق، إلى أن يفقد السجين وعيه، فيغمى عليه"، وهذا ما حصل مع ضيفنا، إلّا أنّه لم يعترف عن مكان الجثة، فتمّ نقله إلى عزل الرملة المخصص لحماس في أكتوبر/1989.
وبعد أشهرٍ في سجن الرملة، تمّ نقل الشراتحة إلى عزل "كفاريونا" عند الشيخ أحمد ياسين، وبعد وصوله المكان، فوجئ بإحضار صلاح شحادة إلى ذات الغرفة، يتابع: "تبادلنا النظرات، وعلمنا أنّ وجودنا سويًا عملية مقصودة، وتيقنا أنّ الاحتلال زرع أجهزة تنصّت للاستدلال على مكان الجندي المختطف خلال لغة الحوار التي سيتم النقاش بها.. لكنّه فشل في ذلك".
وفي عام (1991)، خطط الشراتحة للهرب من السجن، برفقة كلٍ من "يحي السنوار، وتوفيق أبو نعيم، وبهاء المدهون"، وبدأ التنفيذ الذي استمر أسبوعًا، يقول ضيفنا: "قطعنا حديد النافذة، وحفرنا فتحة كبيرة في الجدار، ورتبنا حبالًا للنزول والتسلق، وفي الليلة الموعودة؛ أقدمت مصلحة السجون على حملة تفتيش، وكشف أمرنا، وتمّ ترحيلنا وتعذيبنا في سجن الرملة.
وأثناء محاكمته التي تكوّنت من ثلاثة قضاة، طلب أحدهم تنفيذ حكم الإعدام بحقه، فرفض الآخران، ووجّهت له والدة الجندي "الإسرائيلي" المختطف إيلان سعدون سؤالًا: "أنتم قتلتم ابني وانتهى الأمر، فلماذا لا تخبرون أمه عن مكان جثّته"، فأجابها: "لدينا أمّهات فقدن أولادهن، ولا يعلمن عن مكان وجودهم، وهم مفقودون حتى الآن"، فسألته: "إلى متى سيبقى ابني مفقودًا"، فأجابها بعصبية: "حتى نحصل على كل مفقودينا".
محاولة اغتيال ومؤبدات
وقبل نطق القاضي بالحكم، تحدّث أنّه يفتخر بانتمائه إلى "مجاهدو فلسطين" -الجناح العسكري لحماس آنذاك، وأنّه لا يخشى الإعدام"، فانتفضت شقيقة الجندي "سعدون"، واختطفت سلاح أحد الجنود من نوع (إم16)، وحاولت إطلاق النار على الشراتحة، لكنّ محاولتها باءت بالفشل، ومن بعدها نطق القضاة بالحكم على الشراتحة (السجن ثلاث مؤبدات و30 عامًا).
وفي عام (1999)، تمّ تحويل الشراتحة إلى محكمة جديدة، وحكم عليه بـ(25 سنة إضافية)، بجملة تهم أبرزها "تشكيل مجموعات ومحاولات خطف غير ناجحة في الخارج، وتصوير وزارة الحرب الإسرائيلية بالفيديو من أعلى برج سكني مقابل لها، وكتابة دراسات عسكرية، ومحاولة إدخال استشهاديين إلى الداخل الفلسطيني المحتل".
ويروي لنا الشراتحة حكاية مفاوضات قدّمها الاحتلال له، تقضي بتسليمه جثّة الجندي، مقابل الافراج عنه، وعن الشيخ أحمد ياسين، لكنّه رفض ذلك، وشكّل خلية عسكرية في القدس وهو داخل السجن، مهمّتها خطف الجنود واستبدالهم بالأسرى، وجهّز المخطط كاملًا، وعندما حان وقت تنفيذ الأسر، جرى اعتقال قائد المجموعة "إداريًا"، وانقطع التواصل.
وبعد عامٍ من المفاوضات "الإسرائيلية" مع الشراتحة على قضية الجندي "سعدون"، طلبوا مرة أخرى عقد مفاوضات بوسطاء عرب، وهم "عبد الله درويش رئيس الحركة الإسلامية في الداخل المحتل، ورفيق الحاج يحي عضو في حزب العمل الإسرائيلي، وبسام جابر صاحب زاوية ملاعب وأهداف في الراديو الإسرائيلي".
وانتهت المفاوضات على أن يتم الافراج عن "8 أسرى مؤبدات، و12 أسيرًا أصحاب أحكام عالية من (30-40 سنة)، و28 أسيرة فلسطينية"، مقابل تسليم خارطة بمكان الجثة، وعلى أن يحدد الشراتحة الأسماء المنوي الإفراج عنها، وعلى رأس القائمة الشيخ أحمد ياسين.
وغادر الوسطاء، وجهّز ضيفنا قائمة بالأسماء، لكنّ غياب الفريق المفاوض استمر (14) يومًا بعدها فوجئ بنبأ على شاشة التلفاز يفيد بتمكّن السلطة الفلسطينية الوصول إلى مكان جثّة سعدون، وتسليمها إلى بنيامين نتنياهو هديّة بعدما فاز على خصمه "شمعون بيرز" في انتخابات رئاسة الوزراء.
وبعد دقائق، ظهر مدير المخابرات الفلسطينية أمين الهندي على شاشة التلفاز في مؤتمر صحفي، قال فيه: "إنّ تسليم الجثّة هو هدية لفوز نتنياهو في رئاسة الوزراء".
ويعقّب الشراتحة على ذلك "لم تشأ السلطة أن تحقق حماس نجاحًا بإفراجها عن الأسرى، ولكنّها قدّمتها للاحتلال عبر استخباراتها على طبقٍ من ذهب في مايو/1996".
وأفرجت قوات الاحتلال عن الشراتحة بعد قضائه (22 عامًا) في أقبية السجون، وذلك ضمن صفقة وفاء الأحرار التي قادتها حماس مع "إسرائيل"، على أن تفرج الأخيرة عن 1027 أسيرا فلسطينيا، مقابل إفراج "حماس" عن الجندي "الإسرائيلي" جلعاد شاليط.