قائد الطوفان قائد الطوفان

اليورو يشيخ مبكرا

عواصم – الرسالة نت

 

لم تكد تنجح تجربة اليورو بعد عقد واحد فقط من إصدار العملة الأوروبية الموحدة حتى بدأت عوامل داخلية محضة تنخر عمقها.

 

وجاء ذلك بعد أن نجحت أوروبا في تحقيق سياسات تجارية متناغمة استطاعت أن تنتقل إلى وحدة اقتصادية وأن تتوصل إلى إصدار عملة موحدة أنهت إلى الأبد الاضطراب الناتج عن اختلاف أسعار الصرف الذي ظهر منذ انهيار نظام بريتون وودز في سبعينيات القرن الماضي.

 

ويقول الكاتب وأستاذ التاريخ بجامعة هارفرد، نيال فيرغسون في مقالة كتبها في العدد الأخير من مجلة نيوزويك إن الاتحاد النقدي الأوروبي أعفى المسافر الأوروبي ورجل الأعمال من تقلبات أسعار الصرف كما ساهم في زيادة تدفق الصادرات من بلد إلى الآخر. ووفر الاتحاد النقدي للدول المدينة معدلات تضخم منخفضة وأسعار فائدة معتدلة.

 

كما كان للاتحاد النقدي مميزاته الجيوسياسية. فبعد الوحدة الألمانية كانت فرنسا تخشى طغيان الاقتصاد الأكبر في أوروبا, لكن من خلال الاتحاد النقدي استطاعت دول أوروبا أن تكتسب قوة من قوة ألمانيا، كما استطاعت أيضا أن توجد عملة منافسة للدولار.

 

وعندما اقترح رئيس المفوضية الأوروبية السابق جاك ديلور فكرة الاتحاد النقدي بدت وكأنها مشروعا طموحا. وحتى عندما تبنت الدول الأوروبية معاهدة ماسترخت، وكانت الركن الثالث للاتحاد الأوروبي, أبدى العديد من الاقتصاديين شكوكهم إزاء نجاح تلك الفكرة.

 

لكن كان من غير الواضح أبدا أن الدول الإحدى عشرة التي تبنت مشروع الوحدة النقدية هي في واقع الأمر أفضل من يمثل هذه العملة.

 

فروق أساسية

إن من الطبيعي أن تؤدي سياسة نقدية موحدة إلى تضخيم وليس إلى تقليل الفروق الأساسية بين ألمانيا ذات الإنتاجية العالية والدول المحيطة الأخرى الأقل فعالية.ويقال أيضا بأن أسوأ عيب في جسم الاتحاد النقدي الأوروبي هو أنه وحد العملات الأوروبية لكنه من الناحية الأخرى ترك السياسات المالية دون تنسيق حقيقي.

 

وقد كانت هناك بلا شك موازين للالتقاء في الاتحاد. وحددت هذه الموازين القواعد المالية للدولة العضو بحيث لا يزيد عجز ميزانيتها عن 3% من الناتج المحلي الإجمالي كما يجب ألا يزيد حجم مديونيتها عن 60% من الناتج المحلي الإجمالي. لكن حتى عندما تم تحويل تلك الموازين إلى قواعد في "معاهدة الاستقرار والنمو" لم تكن هناك طريقة لإلزام الأطراف بتنفيذها.

 

وهنا يجب التنبيه إلى أن إغفال آليات تنفيذية للقواعد النقدية كان أحد أسباب قرار بريطانيا عدم الانضمام إلى العملة الموحدة.وفي العام 1998 صدرت عن بنك إنجلترا ورقة سرية تضمنت توقعات عما يمكن أن يؤول إليه وضع منطقة اليورو إذا تضخم عجز موازنة دولة ما إلى ما هو أبعد من الحد المسموح به.

 

وقالت الورقة إن الوضع سيمثل اضطرابا شديدا. لماذا؟ لأن من غير المسموح للبنك المركزي الأوروبي أن يساعد مثل تلك الدولة من خلال الإقراض المباشر لحكومتها. في نفس الوقت من غير المسموح لتلك الدولة بالخروج من الاتحاد النقدي.

 

ويقول الاقتصادي بجامعة هارفارد، مارتن فيلدستاين إنه بسبب هذا الشرط المتشدد فإن العملة الأوروبية ستقود إلى النزاع وليس إلى الانسجام في أوروبا.

 

وإذا أمكننا تسمية الدولة صاحبة العجز الكبير فإنها ستكون اليونان التي كانت الدولة الثانية عشرة التي تنضم إلى اليورو وكان ذلك في أول يناير/كانون الثاني 2001.لكن نبوءة "كاسندرا" اليونان لم تصدق هذه المرة. فرغم أن اليوور أحرز نجاحا كبيرا واستفادت اليونان من استقرار سعر الفائدة على مدى طويل، فإنه لم يتم فرض القواعد المالية ولم تطبق الدول الأعضاء القواعد النقدية عندما تم إصدار اليورو عام 1999.

 

ورغم ذلك كان الاتجاه العام للماليات جيدا. فقد انخفضت العجوزات رغم أن معدلات التضخم والأداء الاقتصادي بشكل عام لم تكن بالمستوى المطلوب إلا أنها لم تشكل قلقا يذكر.ولم يقبل الأوروبيون فقط بحماس على العملة الأوروبية الموحدة فقد كان ذلك اتجاها عالميا حتى إنه بين عامي 1999 و2003 أصدرت البنوك سندات مقومة باليورو أكثر منها بالدولار.

 

وأثار ذلك تساؤلا لدى الدول التي بقيت خارج المنطقة حول ما إذا كان قد سبقها بالفعل القطار أو مركبة الرفاهية.

 

بدء الحلقة المفرغة

لكن في أكتوبر/تشرين الأول 2009 كشفت الحكومة اليونانية الجديدة أنها تعاني من عجز يصل إلى 12.7% من الناتج المحلي الإجمالي وليس كما قالت الحكومة السابقة إنها وصلت إلى 6% فقط في 2009. كما اتضح أيضا أن البنك المركزي الأوروبي مول بطريقة غير مباشرة أكثر من ثلث قروض الحكومة اليونانية عن طريق الإقراض الطارئ للبنوك اليونانية، مما يخرق أيضا القاعدة التي تمنع عملية الإنقاذ.

 

وقد أدى ذلك إلى بدء حلقة مفرغة كان يخشاها منتقدو الوحدة النقدية. فقد بدأ المقرضون بفرض رسوم أعلى على قروض الحكومة اليونانية وزادت بصورة كبيرة من 1% إلى 5% ثم إلى 10%. ورفع ذلك بالطبع من عجز الموازنة الذي يصل حاليا إلى أكثر من 13.6% من الناتج المحلي الإجمالي.

 

وتصاعدت الأزمة حتى انتهت إلى تقديم منطقة اليورو وصندوق النقد الدولي حزمة من المساعدات تنفذ على مدى ثلاث سنوات مقابل تنفيذ الحكومة اليونانية خطة للتقشف لخفض العجز إلى 3% في 2014.لكن هل سيحل ذلك المشكلة؟ للأسف، لا.. إذ إن هناك مشاهد أخرى في التراجيديا اليونانية الحديثة.

 

وأول هذه المشاهد هو إفلاس الحكومة، أو بلغة أخرى التخلف عن السداد.

 

فمن غير المعقول أن تستطيع الحكومة الوفاء بما تعهدت به من التزامات بالتقشف في ظل ركود عميق. وحتى في أفضل الأحوال, فإن الدين الحكومي سيصل إلى 150% من الناتج المحلي الإجمالي بينما تسدد الحكومة خدمة للدين تصل إلى 7.5% من الناتج المحلي الإجمالي.

 

ويقول فيرغسون إن الحكومة اليونانية تفتقر إلى الإرادة السياسية لفعل ذلك. ولذلك فإن من المتوقع أن تسقط حكومة جورج باباندريو وأن تتعاظم الفوائد على السندات الحكومية.إن المشهد الثاني من التراجيديا اليونانية سيكون أكثر دراماتيكية. إن ما يزيد أزمة اليونان خطورة سمة العدوى التي تتسم بها حيث يعتقد المستثمرون أن ما حدث للسندات اليونانية يمكن أن يحدث لسندات أخرى بالمنطقة.

 

وتتشابه في ذلك مع اليونان كل من البرتغال وإسبانيا إضافة إلى إيطاليا وبلجيكا.

 

مصير ليمان براذرز

لكن ليست هذه هي الطريقة الوحيدة لانتشار عدوى اليونان إلى بقية الاقتصادات الأوروبية. فالبنوك اليونانية المترعة بالسندات الحكومية تتجه إلى مصير بنك ليمان براذرز. أما بالنسبة لبلغاريا ورومانيا اللتين تعتمدان في تمويلهما على البنوك اليونانية فستكونان عرضة أيضا لتفشي أزمة الائتمان.

 

وأسوأ من ذلك انكشاف بنوك أوروبية أخرى على الديون اليونانية التي تصل إلى 193 مليار دولار، طبقا لبنك التسويات الدولية.

 

وإذا امتدت الأزمة إلى البرتغال واليونان فإنها ستتفشى أيضا في النظام المصرفي الأوروبي برمته لنرى أزمة مصرفية.

 

والطريقة الوحيدة للخروج من الأزمة هو وعود من البنك المركزي الأوروبي بقبول الورق (السندات) الذي يقبله مقابل القروض. فقد اتخذ البنك المركزي الأوروبي اتجاها ينقض قواعده حيث استمر بالاحتفاظ بالسندات اليونانية رغم تردي تصنيفها الائتماني. وفي حال استمراره في نفس النهج فإن هناك اتجاها واحدا أمام اليورو, وهو أن يستمر في الانحدار.

 

 يلفت فيرغسون الانتباه إلى أن ما يجب تذكره هو أنه عندما تم إصدار اليورو في يناير/كانون الثاني 1999 كان يساوي أقل من 1.20 دولار وانخفض إلى أقل من دولار واحد في أول ثلاث سنوات من إصداره، أي أن هبوطه من 1.60 دولار قبل الأزمة المالية إلى 1.27 في الأسبوع الماضي لم يكن غير مسبوق.ويقول فيرغسون إن مؤشرات الأزمة الحالية تفيد بأن الاتجاه إلى أدنى هو احتمال وارد.

 

ويضيف أنه ستكون أمام المستثمرين مدة لا تقل عن عام قبل أن يدركوا أنه صحيح أن الأزمة المالية التي تعرضت لها الولايات المتحدة كانت أعتى من الأزمة الأوروبية، لكن الاختلاف بالطبع هو أن لدى الولايات المتحدة نظاما اتحاديا تفتقر إليه منطقة اليورو.فقد كشفت أزمة اليونان مؤخرا أن مثل هذه المركزية المالية ضرورية لوحدة نقدية.

 

ويضيف أن أوروبا تواجه حاليا قرارا أكبر مما إذا كانت هي راغبة في إنقاذ اليونان أم لا. إن أمامها أن تختار بين ولايات متحدة أوروبية أو أن تبقى إمبراطورية رومانية تعيش في عالم اليوم كمجموعة من المتغيرات الهندسية التي ستؤول إلى الزوال عاجلا أم آجلا.

 

 

المصدر: نيوزويك

 

البث المباشر