جهّزت البلالين، وشمعة، وقالب حلوى؛ لتحتفل بيوم ميلاد عمّها في بيت زوجها، ثم جهّزت أبناءها الأربعة وطبعت على جبين كلِ واحدٍ منهم قبلة حبٍ، وأخبرتهم أنّ اليوم "سنقضيه والضحكة لا تفارق شفاهنا"، ثم همست لابنها الصغير -براء- بشدّة حبّها له، مؤكدة أنّها أرسلت دعواتِ مشاركة الاحتفال؛ لاخوتها ليضيفوا أجواء السعادة في ليلةٍ خططت أن تكون من أيّام العمر.
بعثت أجواء الاحتفال، ومنظر قالب الحلوى؛ السعادة في نفوس الصغار، وجهّز كلُ واحدٍ منهم جملة معايدة ليلقيها على جدّه، لكنّ نداء براء على أمّه ليراجع عبارته التي حفظها صباح الجمعة الرابع من مارس/آذار، أثار القلق لدى الجميع، لأنّ الوحيد الذي يجيبه؛ كان صدى صوته بعد تأخر والدته عن الحضور.
دبّ القلق في نفس والده، فاتصل على بيت أهل زوجته في السادسة صباحًا؛ ليطمئن إن كانت لديهم، إلّا أنّه لامس القلق في صوت حماته التي ردت عليه عبر سمّاعة الهاتف "أماني مش عنّا.. طمّني صار شيء؟".
تمتم الزوج بكلماتٍ غير مفهومة، ثم تدارك نفسه وأجاب بصوتٍ متقطّع: "لا.. لا.. إن شاء الله خير".
قلب الصغار ازداد قلقًا، وامتلأ البيت ببكائهم، ولم يفصلهم سوى ساعة واحدة؛ حتّى وصل العائلة خبرٌ عبر وسائل الإعلام، يفيد بأن "الاحتلال الإسرائيلي يعدم فتاة فلسطينية قرب مستوطنة "غوش عتصيون" الواقعة على الطريق العام بيت لحم - الخليل، بزعم محاولتها تنفيذ عملية دعس لجنوده".
ازدادت حدّة الشك لدى العائلة، فأسرع محمد شقيق أماني إلى الحاجز، ووصل للمكان، ورأى أمام عينيه سيّارة قد تغيّرت معالمها من شدّة الطلقات النارية، ثم شاهد جثمان فتاة ملقى على الأرض، فطلب من جنود الاحتلال أن يكشفوا له عن هويتها لكنّهم رفضوا، وأصدروا أمر حجزٍ بحقّه، ثم اقتادوه إلى التحقيق.
قال له الضابط الإسرائيلي أثناء التحقيق: "لماذا تقول إنّها شقيقتك؟"، فأجابه بلهجةٍ تشي بشدّة غضبه: "نفتقد شقيقتنا منذ ساعات الصباح، وربما تكون هي التي أعدمتموها"، فاصطبحه الضابط إلى المكان وطلب منه أن يتعرّف عليها.
مسّد محمد على وجهه، وضرب كفًا بكفٍ، وبدأ يردد أدعية الاستغفار، لكنّ صوت الضابط قطع عليه أمره، وقال له: "شقيقتك صحيح.."، فنظر إليه وعيناه تعتصران حرقة، حتّى أكمل الضابط حديثه بعدما وصلته الإجابة من ايماءات شقيقها: "كانت تريد تنفيذ عملية دعسٍ للجنود؛ فأطلقوا عليها النار وقتلوها".
وبعد ما يقرب نصف ساعة من عملية الاغتيال؛ أعلنت وسائل الإعلام العبرية عن هويّة الفتاة أنّها الشهيدة أماني حسني سباتين (34 عاماً)، ووصل الخبر للعائلة، وتوجهت إلى حاجز "عتصيون"، وأكدت لـ"الرسالة" أنّ السيارة تعرضت لما يزيد عن (50 رصاصة)، معظمها في المناطق العلوية للمركبة.
يقول شقيقها: "بعد التحقيق معنا؛ اتصلوا على زوجها وأجروا التحقيق أيضًا معه، وقدّموا له صور سكينٍ في سيارتها، إلّا أننا لم نتعرف عليها، وتأكدنا أن جنود الاحتلال وضعوها ليبرروا عملية القتل.. قتلوها بدمٍ بارد ثم اتهموها بمحاولة تنفيذ عملية".
يستحضر محمّد فترة الحدث ويصفها لـ"الرسالة" متابعًا: "وصل جثمان أماني للبيت، وافتقدنا ابنها براء؛ أشد المقربين من قلبها، وبحثنا عنه حتى وجدناه في حديقة البيت".
كان الطفل الصغير يزرع وردًا برفقة أمّه في ساحة البيت، ومع كلّ صباحٍ يرووه بالماء معًا، وبعدما أحضروا جثمان أمّه ذهب إلى المكان الذي يجمعه دومًا بها أمام الورد "الجوري، والياسمين"، وأمسك بوردةٍ وقدِم إلى جثمان أمّه، سألوه ما هذه؛ فأجابهم: "كانت أمّي تحبّ هذه الوردة، سأعطيها لها حتى تتذكرني وهي بالجنة".
مشهدٌ أبكى الحضور، ثم واصل الطفل براء حديثه أمام جثمان أمّه قائلًا: "ماما أنا بحبك.. ليش ما بدك تاخديني معك على الجنة، أنت قلتي إلنا أنها حلوة.. بترجعي وبتاخدينا..".
وبعدما وارت العائلة جثمان أماني الثرى برفقة وردةِ براء "الجوري"، عادوا للطفل الصغير الذي تسلّق على سرير أمّه وتناول صورتها وبقيت بيديه، وعندما نادوا عليه ليتناول الطعام، قال بعفوية: "ما بدي آكل إلا مع أمّي، وما فيه عيد ميلاد إلّا لمّن تيجي أمّي".
كان بكاء شقيقها محمّد عبر سمّاعة الهاتف التي أوصلتنا به؛ يجسّد حكاية الوجع التي لفّت العائلة منذ اعدام ابنتهم، ولكنّهم يتسلّحون بـ"حسبنا الله ونعم الوكيل".