اجتمعوا حول سريرها المصنوع من جذع الزيتون الذي يُحاكي أرضًا مسلوبة، وطلب صغيرهم أن تسرد لهم قصّة البلاد، ووجع الأجداد، وصوت القذائف الذي يعود صداه كلّما شاهدت مفتاح الدار.
جمّعتهم في جلسة سمرٍ عشيّة ذكرى يوم الأرض الـ (40)، ومع انقطاع التيار الكهربائي عن بيتها الكائن في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، ابتسمت لمن حولها وقالت: "كُنّا نعيش على ضوء القمر، ونشعر بالسعادة (..)، نشمّ رائحة تُراب وزرع وهواء بلادنا؛ فتزيح عنا أي همٍ في قلوبنا".
تجاعيد وجه العجوز التسعينية بدر فلفل ينسج قصّة ألمٍ كابدتها منذ أن سمعت صوت رصاص "بواريد" المناضلين يتوجّه صوب الاحتلال، وتعود بذاكرتها لعام الهجرة الفلسطينية (1948)، وتخبر أحفادها الذين اجتمعوا برفقة "مراسل الرسالة" حولها.
تقول الحاجّة بدر: "بلدي اسمها عِبدس، وكانت بنظرنا كالجنّة، رغم بساطة أحوالنا، لكن يا جدّتي السعادة تكون بأن تنظر للخضرة التي نزرعها بأيدينا، ولضحكات أهالينا، وصوت الفأس يعانق أراضينا".
كانت بدر في العشرينات من عمرها عندما زرعت مع زوجها "القمح، والذرة، والعنب" في أراضي "عِبدس"، وفي أحد الأيّام استيقظت على صوتِ رجال البلد يجتمعون فجرًا، وقد قرروا أن يبيع كل واحدٍ منهم ذهب زوجته، ليوفّر في كلِ بيتٍ "بارودة".
ومع دخول الزوج إلى البيت؛ همّت إليه "بدر"، وقد خلعت عن رقبتها "سنسالها"، ومن يدها "أسوارتين" من ذهب، وقالت: "خذهن.. فإنّ أرضي بحاجة لثمنهن، فاشترى بارودة عساها تحمينا من أنياب (إسرائيل)".
عددُ البواريد في البلدة لم يتجاوز العشرين، وبليلةٍ سُمِعت فيها أصواتُ الجنود المصريين الذين حضروا من القاهرة دفاعًا عن الفلسطينيين، تقول بدر: "كانوا يصرخون علينا أن نهرب، وأنّ اليهود قد عقروا بطون جميع النساء في البلدة التي بجانبنا".
اعتقد أهل البلدة أنّ غيابهم "تكتيك من الجنود المصريين"، فلحقوا بهم، في حين استشهد ما يزيد عن ثلثي "حاملي البواريد"، وكانت لرحلة "نكبتهم" حكاية تروي الحاجّة بدر بعض مشاهدها، تقول: "خشينا على أرواحنا واعتقدنا أننّا سنعود بعد أيّام، فتركنا جميع ما نملك، ونفدنا بأجسادنا".
وتتابع: "كُنّا نركض هاربين اتجاه الفالوجة، وفور وصولنا وجدناها قد رحل ساكنوها، ومنها توجّهنا إلى المجدل، ومكثنا ليلة بأكملها وكُنّا نتوقع أن يباغتنا الاحتلال فلم تغفُ عيوننا".
وقبل إشراقة شمسِ اليوم التالي، وصلت (13 طائرة) تحمل كل واحدة برميلًا متفجرًا، وتلقيه على البلدة، وما إن تنتهِ تحلّ مكانها (13 أخريات)، وأصبح الجميع يتفقّد من حوله، حتّى وصلتهم حمم القذائف، فاستشهد ما يزيد عن (7 من أفراد العائلة)، وأحدهم بقي ينزف حتّى ارتقى دون تمكّن أحدٍ من اسعافه.
وبعد ساعاتٍ من القصف، وصلت شاحنات كبيرة، كانت تُستخدم لنقل المواشي والأعلاف، وحطّت رحالها في المجدل، وطلب رجال البلدة من النساء أن يحملن الصغار ويصعدن بداخلها لتقلّهم إلى مكانٍ أكثر أمنًا.
وبعدما وصلت الباصات إلى غزة، لم يجدوا لأيّامٍ مكانًا آمنًا يأويهم، فافترشوا الأرض، والتفّوا حول بعضهم يتلمّسوا الدفء، إلى أن وصلتهم فيما بعد خيمٌ للجوء.
كانت أنفاس التسعينية تتسارع مع حديثها، إلى أن قالت بعد تنهيدة تخبرنا بحرقةٍ تستوطن قلبها: "عِبدس فيها الأمان، والوطن، والحنان، والراحة، والاستقرار".
وتتابع حديثها وهي تعتصر بيديها على أقدامها، ويرتجف صوتها: "كُنّا نأكل العشب، ونوقد روث الحيوانات لنتلمّس قليلا من الدفء، لم يمر علينا حصار مثل ذلك الوقت، عشنا غرباء.. وما زلنا حتى نعود إلى ديارنا".
ويحيي الفلسطينيون في 30 آذار من كل عام، ذكرى يوم الأرض، والذي تعود أحداثه لـ1976 بعد أن صادرت السّلطات "الإسرائيلية" آلاف الدّونمات من الأراضي ذات الملكيّة الخاصّة أو المشاع في نطاق حدود مناطق ذات أغلبيّة سكانيّة فلسطينيّة، وقد عم إضراب عام ومسيرات من الجليل إلى النقب، واندلعت مواجهات أسفرت عن سقوط ستة فلسطينيين وأُصيب واعتقل المئات.