المعارضة الجارفة التي أبدتها اليهودية الأرثوذكسية للأفكار الصهيونية لا تعني أنه لم تكن هناك مجموعة قليلة من الحاخامات الأرثوذكس قد تبنت أفكاراً مشابهة للفكرة الصهيونية حتى قبل أربعين عاماً من انطلاق الحركة الصهيونية.
وعلى الرغم من أن أفكار هؤلاء الحاخامات لم تحدث تغييراً ملحوظاً في مواقف اليهود الأرثوذكس تجاه مسألة العودة إلى "أرض الميعاد" والتدخل البشري في تحقيق "الخلاص" لليهود بسبب قلة عدد هؤلاء الحاخامات وتدني مكانتهم الدينية نسبياً، إلا أن أفكار هؤلاء الحاخامات مهدت الطريق نحو ظهور تيار الصهيونية الدينية عبر انضمام المزيد من حاخامات اليهود الأرثوذكس وأتباعهم للحركة الصهيونية عندما طرحت هذه الحركة أفكارها.
وقد استند هؤلاء الحاخامات إلى المصادر الدينية ليؤكدوا وجوب عودة اليهود إلى "أرض الميعاد" حتى قبل مجيء المسيح المخلص.
وكانت حجة هؤلاء الحاخامات تقوم على أن عودة اليهود إلى فلسطين تمثل متطلباً سابقاً لمجيء المسيح وليس العكس.
وقد وظف هؤلاء الحاخامات فتوى دينية أصدرها الحاخام موشيه بن نحمان (1194-1270)، الذي يطلق عليه "الرمبان"، الذي يعد من أهم مرجعيات الإفتاء اليهودي في عصره، وتنص على أن العودة إلى أرض (إسرائيل) تعجل بقدوم المسيح المخلص، وأن أرض (إسرائيل) هي المكان الوحيد المناسب لأداء الوصايا الدينية المنصوص عليها في التوراة وأنها "مركز العالم"، في حين أن أورشليم (القدس) هي مركز "أرض (إسرائيل)" .
لكن أهم ما جاء في فتوى "الرمبان"، وشكل دعماً للفكرة الصهيونية هو حكمه بأن "عمارة أرض (إسرائيل) (استيطانها) تعد فريضة تعدل كل فرائض التوراة الثلاثمائة والستين .
وأفتى الرمبان أيضاً بوجوب هجرة اليهود إلى "أرض (إسرائيل)" جماعات وفرادى، وأنه يحق لليهودي تطليق زوجته إذا رفضت الهجرة معه إلى "أرض (إسرائيل)، وكذلك رأى أن منع الزوج لزوجته من الهجرة إلى" أرض (إسرائيل) "يمثل مسوغاً كافياً من ناحية دينية لتطليقها منه، وأنه يتوجب على العائلات اليهودية القدوم إلى هذه الأرض حتى لو ترتب على ذلك تدهور في أوضاعها الاقتصادية.
ومما لا شك فيه أن أفكار الصهيونية الدينية قد قفزت بشكل كبير مع تولي الحاخام أفراهام إسحاق كوك (1865-1924) قيادة التيار الصهيوني الديني، حيث حرص كوك على ترجمة أفكارها بنفسه على الأرض، وكان من أهم انجازاته إنشاء مدرسة "مركاز هراب" أي (مركز الحاخام)، في القدس المحتلة، التي تعد حالياً أهم وأكبر مؤسسة تعليمية تابعة للصهيونية الدينية، حيث تخرج منها جميع المرجعيات الدينية والنخب السياسية للصهيونية الدينية، بالإضافة إلى معظم قادة المشروع الاستيطاني اليهودي في الأراضي العربية التي احتلت عام 1967.
وعلى خطى معلمه موهيليفر، واصل كوك تقريب وجهات النظر بين المتدينين والعلمانيين، وظل يعمل على ترغيب المتدينين في إقامة علاقات مع العلمانيين، حيث كان يرى في جيل المستوطنين اليهود الأوائل، سواء كانوا علمانيين أو متدينين، رواداً ينتمون إلى جيل المسيح المخلص، وإن قادة المشروع الصهيوني، حتى وإن كان معظمهم من العلمانيين، فإنهم ينفذون تعاليم الدين باستيطانهم "أرض (إسرائيل)".
وكان كوك يرى أنه لا يوجد تعارض بين الرؤية الخلاصية المتمثلة في مجيء المسيح المخلص وبين الحركة الصهيونية على اعتبار أن هذه الحركة تمثل في نظره صورة من صور حركة التاريخ، وإن انطلاق الحركة الصهيونية، رغم علمانيتها، يمثل في الحقيقة استجابة لمشيئة إلهية.
وعمل كوك على نسف المفهوم القائل بأن العلاقة بين اليهود و"أرض (إسرائيل)" يجب أن تبقى روحية فقط، وهو المفهوم الذي كانت تتشبث به اليهودية الأرثوذكسية المناوئة للصهيونية، حيث قال "لا يستطيع اليهودي أن يكون مخلصاً وصادقاً في أفكاره وعواطفه تجاه أرض (إسرائيل) وهو يقيم في الشتات كما هو عليه الحال وهو يعيش على هذه الأرض، فالوحي المقدس لا يكون نقياً بأي درجة إلا في أرض (إسرائيل) بينما يكون خارجها مشوشاً".
نجحت الصهيونية الدينية في بلورة تفسير جديد لفكرة الخلاص اليهودي؛ إذ رأت في إقامة دولة (إسرائيل) وإن تمت على أيدي نخبة علمانية بأنها تمثل بداية تحقيق الخلاص، وبذلك أضفت قدسية على ما قامت به الحركة الصهيونية.
وأسهمت الصهيونية الدينية في نشر فكرة وحدة اليهود القومية بعكس ما كانت تروج له اليهودية الأرثوذكسية، علاوة على إسهامها في بناء مؤسسات الدولة العتيدة من خلال نشاطها في مجال الاستيطان، فضلاً عن دورها في تشجيع اليهود على الهجرة إلى أرض فلسطين.
ولعبت الصهيونية الدينية دوراً مركزياً في إحياء اللغة العبرية كلغة قومية تستخدم في التداول اليومي، وكان دور مرجعيات الصهيونية الدينية حاسماً في هذه العملية؛ إذ إنها وفرت المسوغ الديني لهذا التحول في حياة اليهود، عندما حث حاخاماتها على استخدام هذه اللغة في التداول وعدم قصرها على أداء الصلوات.
وأدى النهج التوفيقي الذي اتبعته الصهيونية الدينية في تقليص مظاهر الاستقطاب بين المتدينين والعلمانيين سيما في مقتبل عمر الدولة، علاوة على أن ندماج أتباع التيار الديني الصهيوني في مؤسسات الحركة الصهيونية، وبعد ذلك في مؤسسات الدولة، أسهم في تعزيز مبدأ العمل المشترك بين العلمانيين والمتدينين.