بعد عشر سنوات من الانتظار وإنجاب خمس بنات، جاء "ربيع" - اسم مستعار- إلى الدنيا ليكون سندا لشقيقاته، فمنذ قدومه إلى الحياة وهو يحظى بدلال عائلته التي اعتبرته "ابن العطش".
متطلبات "ربيع" مجابة، فلا يقوى والده على ردها، حتى لو طلب "لبن العصفور"، فمع مرور الأيام كبر وبات يعتدي على أخواته وأمه بالضرب، ولم يقتصر الأمر على ذلك فقد كان يفتعل المشاكل مع الجيران حتى طرد وعائلته أكثر من مرة.
لم يكمل "آخر العنقود" تعليمه الثانوي فهو بالكاد يحصل على علامة النجاح، ووالده لم يضغط عليه من أجل مستقبله، فالمال متوفر ويمكنه عمل أي مشروع يرغب به.
حالة الرفاهية التي عاشها "ربيع" جعلته يصاحب أصدقاء السوء، فيتعاطى لفائف الحشيش والحبوب المخدرة، عدا عن سلوكياته الأخلاقية التي كان ذووه يتجاهلونها بحجة أنه شاب "طائش".
حينما وصل سن العشرين، قرر أن ينفصل عن عائلته ليعيش وحده تمهيدا للزواج، لم يمانع والده فقد فرح كثيرا أن وحيده قرر تكوين عائلة وسيهتم بمستقبله، فلبى له طلبه لكن الابن استغل شقته لجلب رفاق السوء وإقامة الحفلات التي كانت تزعج الجيران.
هذه الحكاية واقعية، دارت أحداثها قبل سنوات في غزة وليست من وحي خيال الكاتب، لكن تفاصيل الحكاية تجعل القارئ يظن وكأنها قصة مقتبسة من أفلام الخيال.
استقلال آخر العنقود جعله يتهرب من زيارة ذويه، أو الذهاب إلى الشركة التي يملكها والده، وأصبح كل من يقترب منه ينفر من رائحته، وبات مكتئبا منطويا على نفسه.
حاول والده إرجاعه إلى البيت أو الذهاب للعيش معه، لكنه رفض رفضا قاطعا، مهددا إياهم بالانتحار، الأمر الذي جعل والده يحضر بعض شباب عائلته الموثوق بهم للعيش معه مقابل عائد مادي.
مع مرور الأيام ازداد وضع "ربيع" سوءا فحاول شنق نفسه بغرفته، إلا أن أقاربه أنقذوه في اللحظة الأخيرة، وعاد مرة أخرى محاولاً الانتحار بواسطة عقاقير فأنقذه الأطباء بعد غسيل معدته، الأمر الذي دفع والده إلى إجباره على العودة للبيت وعرضه على طبيب نفسي.
لم يتقبل الشاب فكرة الذهاب لطبيب نفسي، لكن مع المحاولات المتكررة قبل بالأمر وبات يتجاوب مع الأدوية وجلسات التفريغ النفسي، حتى تبين أنه منفصل عن الواقع ويعاني من أمراض ذهنية.
ورغم الأموال التي دفعها والد ربيع لإنقاذه من العالم الذي يعيش فيه، وجلب مختصين لمتابعته إلا أن ابنه صعد إلى بناية مكونة من سبعة طوابق والقى بنفسه ولقي حتفه، فابنه لم يكن يحتاج المال بقدر حاجته للاحتضان الأسري والتوجيه.
دور الأسرة
من جهته، يقول محمود صيام استشاري الطب النفسي، أن هناك من يقبل على الانتحار نتيجة تعرضه لظروف قاهرة كفشله في الحصول على وظيفة، أو نتيجة علاقة عاطفية، مما يؤدي لصدمات نفسية تصل بالبعض أن يصاب بمرض نفسي، فيصبح غير واع لما يقوم به، في حين أن بعضهم يرى أن لا حل لمشكلته في الحصول على مبتغاه فيصبح لديه "فقدان الأمل".
وشدد في حديث صحفي على أهمية دور الأسرة والمدرسة والتربية والمشرف الاجتماعي منذ الصغر على تعليم الأطفال طرق الدفاعات النفسية، وسبل معالجة الأمر عند التعرض لأي تجربة فاشلة. وأكد صيام أن الوقاية خير من العلاج في حالات الانتحار، ويعني ذلك البدء في بناء عائلة مبنية على أسس صحيحة، لا تعني فقط بالتغذية الجسدية من طعام وشراب، بل كذلك الغذاء الروحي والتربية الصحيحة، وتثقيف الآباء الجدد، بأساليب التربية بالدورات والورشات، لأن الحلول غالباً تأتي أيضاً من البيئة التي تحيط بالشخص.