يقبع الأسير الصحفي محمود عيسى في زنزانته "لا حيًا ولا ميتًا"، متسائلاً عمّا إذا كان سيخرج من "مقابر الأحياء" التي دفن فيها ربيع عمره وما زال، أم سيصبحُ رقمًا يُضاف إلى الذين استشهدوا داخل أسوار سجون الاحتلال الإسرائيلي.
"ربع قرن" خَطف السجن من عمر الصحفي عيسى، بعد أن اعتقله الاحتلال عام 1993م، وحكم عليه بالسجن ثلاثة مؤبدات و40 عامًا إضافية.
يذكر أن الصحفي عيسى الذي تم اعتقاله من منزله، كان يشغل إدارة مكتب جريدة "صوت الحق والحرية" في مدينة القدس المحتلة، وقد تعرّض للضرب والتعذيب والشّبح أثناء فترة التحقيقات معه والتي دامت شهورًا طويلة قبل نطق الحكم عليه.
وتتهم سلطات الاحتلال الأسير عيسى بتأسيس أول فرقة خاصة في كتائب القسام، سميت "الوحدة الخاصة 101" في مدينة القدس المحتلة، حيث أخذت على عاتقها تحرير الأسرى الفلسطينيين عن طريق أسر جنود إسرائيليين، ومن ثم مقايضتهم بأسرى فلسطينيين.
وتقول أم محمد عيسى والدة الأسير: "في الثالث من حزيران (يونيو) لعام 1993، عاد محمود وأشقاؤه إلى منزلهم في بلدة عناتا الواقعة شمال شرق مدينة القدس المحتلة، وقد أنهكتهم أعمال الحصاد في "البيدر"، وما هي إلا دقائق قليلة حتى أقدمت قوات الاحتلال المدجّجة بالسلاح على تطويق المنزل من كلّ جانب".
ودهمت قوات الاحتلال المنزل واعتقلت الصحفي عيسى الذي كان في عامه الـ 25 من العمر آنذاك، أمّا اليوم وقد أكل السجن سني عمره فبات في نهاية عقده الرابع.
وكان اعتقال محمود ضمن حملة إسرائيلية استهدفت ناشطي وأنصار حركة "حماس"، أُبعد على إثرها 415 من قادتها إلى "مرج الزهور" في الجنوب اللبناني، واعتقل الآلاف من عناصرها في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة.
وفي عام 2002 تم التحقيق مجدّدًا مع الأسير محمود عيسى، واتّهم بتنظيم وقيادة خلايا خارج السجون، ليتم إضافة ست سنوات لحكمه السابق.
عزلٌ سرَق شبابه
سنوات طويلة عاشها الأسير محمود في العزل الانفرادي، سرقت من شبابه الكثير، إذ كان يُسمّي زنازين العزل "مقابر الأحياء" لقساوتها، لكن ما يُسرّي عنه هو التقرّب إلى الله، واللجوء إليه، فخرج من العزل حافظًا للقرآن الكريم كاملاً.
وتضيف والدته في حديثها مع الرسالة "أراد الاحتلال من هذا العزل أن يخرج ابني مجنونًا منطويًا، لكنه خرج حافظًا للقرآن، متقرّبًا إلى ربّه". وتتابع: "لم يزدْه العزل إلّا قوة وثباتًا وإصرارًا على الحياة، كان يُسمح له بإدخال المذياع فقط، فكنّا نبعث له رسائلنا عبر تلك الإذاعات".
أما المحامي محمد اشبيكان فيقول للرسالة: إن محمود قد ألّف عدة كتب خلال فترة العزل، من بينها رواية (حكاية صابر) التي نُشرت لأول مرّة عام 2012، ومن يقرأها يعرف بأنها قصة محمود". وأوضح انه خلال فترة العزل الانفرادي التي قدرت بـ 12 عامًا على التوالي منعت عائلة محمود من زيارته، رغم الضغوط على الاحتلال للسماح له بمقابلة أهله.
وبعد تلك الفترة التي تم عزلُه فيها، ومُنع من زيارة أيٍّ من أقاربه، قابلته والدته "أم محمد" عام 2013 وقد غزا الشيب رأسه وأصبح رجلاً كبيرًا في السن، وما هي إلّا أشهر قليلة حتى ساء وضعها الصحي ولم تعد تستطيع زيارته.
ويتناوب أشقاء محمود على زيارته، في محاولة للتخفيف عنه قساوة السجن والبعد، آملين أن فرجًا قريبًا بانتظار محمود الذي تصنّفه سلطة الاحتلال كأحد أخطر عشرة أسرى في سجونها.
إبداع رغم القيد
ومن بين الكتب التي أصدرها الأسير محمود خلال فترة عزله، كتاب بعنوان "السياسة بين الواقعية والشرعية"، وعن هذا الأمر تحدث رئيس لجنة أهالي الأسرى المقدسيين أمجد أبو عصب عبر صفحته على الفيسبوك"، موضحاً أن إصدار الأسير عيسى لهذا الكتاب يضاف إلى سلسلة إصداراته الإبداعية، رغم ألم القيد والبعد.
ويعتبر الأسير محمود عميد الأسرى المعزولين، كما يصنفه الاحتلال أحد أخطر الأسرى لديه، حيث قاتلت خليته التي كان يقودها بعدة معارك ضد الاحتلال وقتلت وأسرت عدة ضباط وجنود إسرائيليين.
وترفض سلطات الاحتلال الإفراج عن محمود في إطار أي صفقة تبادل، وسبق وأن انصاعت لشروط المقاومة الفلسطينية بتحرير جميع أفراد الوحدة الخاصة القسّامية التي يُتّهم الأسير محمود عيسى بتأسيسها عام 1992، وهم: موسى عكاري، وماجد قطيش، ومحمود عطون، وذلك في إطار صفقة "وفاء الأحرار" عام 2011، وأبعدتهم إلى تركيا، وبقي عميد أسرى حماس والمعزولين في سجون الاحتلال.
لم يحنِ محمود الهامة ولم تستكن نفسه ولن تقر عيون أهله وأحبابه إلا بخروجه من أسره حراً عزيزاً ضمن صفقة وفاء جديدة، لاسيما في ظل تمكن كتائب القسام من أسر عدد من جنود الاحتلال خلال فترة العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة عام 2014.