قائمة الموقع

سليم المبيض.. ذاكرة فلسطينية تنبش في حقول الجغرافيا التاريخية

2016-05-08T14:58:16+03:00
المؤرخ والباحث الفلسطيني سليم المبيض
الرسالة نت-حاوره محمد أبو زايدة

استقل أربعةٌ من رجال المدينة سيارتهم؛ مُتجهين إلى صديقٍ لهم؛ وفي أحد الشوارع اصطدم جيب عسكري بمركبتهم، وكانت الأنباء الأولى تشير إلى وفاتهم جميعًا، إلّا أنّ أصبع سبابة أحدهم يرتفع ونبضات قلبه تزداد خفقًا، فأسرع الجميع لإنقاذه، وفي غرفة العمليات أخبر الأطباء العائلة أنّ الوضع الصحي لابنهم "ميؤوس منه".

لم يتحمّل رب الأسرة رؤية نجله في لحظاته الأخيرة؛ فدعا ربّه في ليلةٍ "ربِ افدِ ابني بروحي.."، وبعد أيامٍ استفاق الابن من غيبوبته، فنظر إلى زوجته التي كانت في شهرها السابع، وتعاهدا إن رزقا بولدٍ يسمياه "سليم"، وإن كانت فتاة "سليمة"، وبعد شهرين في الأوّل من يونيو (1943) بشّرهما الطبيب أنّ الزوجة وضعت طفلًا.

يتبسم وجفناه يخفيان دمعة برقت في عينيه، ويتحدّث بعد تنهيدةٍ سبقتها لحظاتُ صمت: "سأخبرك بحياتي منذ تسميتي عقب سلامة والدي، إلى اللحظة التي دعوتك فيها لتحتفل معي بتكريمي بشهادة الدكتوراه؛ قبل أيام".

وعودة إلى ما قبل نشر الحوار بشهر، فقد استمرت "الرسالة نت" قرابة الشهر تستأذن المؤرخ والباحث الفلسطيني سليم المبيض؛ بأن يعطيها مساحة من وقته لتتأمّل حياته التي قضاها بين الكُتب، إلّا أنّه كان يخبرنا بأنّه "شديد الانشغال في محاضراتٍ بجامعات غزة"، حتى رحل أبريل، وفي آخر أيامه، وصلتنا دعوة من "المبيض" عبر الجوال لحفلٍ أقيم على شرفه؛ لتكريمه بالدكتوراه الفخرية من "البوليتكنك للعلوم التطبيقية".

 

سُجنت بتهمة رفعي العلم الفلسطيني وتحريض الطلاب على (إسرائيل)

 

شاء القدر أن نعقد اتفاقًا خلال الاحتفال، بأن يكون لقاؤنا معه في اليوم التالي لتكريمه، وننبش في ذاكرته التي تعتصر تاريخًا، وما إن وصلنا إلى منزله، حتّى اصطحبنا في جولةٍ تعريفية على أثاثٍ موضوع بعناية في كل زقاقٍ ببيته، فعن يمينك تجد تمثالًا لما يسمى "آلهة الجمال" في فلسطين سابقًا -عشتار، وعملات تعود إلى ما قبل آلاف السنين، ويحفّ المكان ما يزيد عن مئات الكتب، والأبحاث، والمجلات، والمخطوطات.

براءة الطفولة

جلسنا في بيته الأثري الذي صممه ليعكس التراث الفلسطيني، وعاد بنا عشرات السنين، حيث بدأنا مع أولى محطات طفولته التي عاشها في حي الشجاعية، تعود الابتسامة لترتسم على وجنتيه حينما قال: "كُنّا ننتظر الشتاء لنلعب ونمرح عندما تتكوّن السيول في الحي، ولا نبالي بصراخ أهلنا وخوفهم علينا".

كبُر الطفل المًدلل الذي يشاركه في الدلال من أهله أربعة أشقاء، وتعلّم الابتدائية في مدرسة "الجرن -حطين حاليًا"، وواصل تعليمه في "فلسطين" وصولًا لمدرسة يافا بالثانوية العامة في بداية تأسيسها عام 1961، وما استحضره من تلك الفترة؛ تعيينه طيلة سنوات دراسته -عريفًا على الفصل-، يعقّب على ذلك بقوله: "هذا زرع في نفسي الجرأة والقيادة". 

 

في يوم زفافي أوقفني الاحتلال بتهمة تنفيذ تفجير ومرّ موكب الفرح أمامي

 

وبعدما تخرّج من الثانوية العامّة، ساقه القدر إلى أن يكمل تعليمه في جامعة عين شمس، فاختار تخصص اللغة الجغرافيا، "لأنّه أكثر حبًا في قلبه من غيره"، وأكمل نشاطه وتفوقه طيلة دراسته في مصر التي استمرت أربع سنوات، ثم عاد أدراجه إلى غزّة حاملًا بيده شهادة "البكالوريوس".

قاطع حديثنا إشارات من زوجة المبيض تنبهه إلى الضيافة التي أعدّتها لنا، ومع إحضار القهوة والحلوى، قال: "كانت عائلتي دون خط الفقر، وأكثر ما أثر في نفسي خلال سنوات دراستي الجامعية؛ هو إرسال والدي مصاريف شخصية لي، تزيد عن راتبه الشهري الذي كان يتقاضاه من عمله شرطيًا".

يتابع: "كُلّما استلمت المبلغ أشفق على نفسي وتدمع عيناي، حتى انتظرت إنهاء العبء الذي أحملته لعائلتي، وتمنيت أن يأتي اليوم الذي أقبّل به رأس والدي ويديه وأعطيه راتبي".

 

أملك (25 مؤلفًا) باسمي و(8 بالمشاركة)، و(4) تحت الطباعة

 

وقبل أن يعود ضيفنا إلى غزّة، ونظرًا لاجتهاده؛ قدّمت له الدكتورة ليلى عثمان  من جامعة عين شمس فرصة التوظيف في جامعة الدول العربية، ثم توالت عليه الإغراءات، لكنّه أجاب الجميع: "أريد أن أعيش أمام ناظري والدي، وأخدم بلدي".

كُن مُحاميًا

وبعدما وصل "المبيض" غزة، بقي (11 يومًا) يتهيّأ لتعيينه مُدرسًا، حتى لاقى صنوفًا من العراقيل تنتظره، واجتازها بروحٍ "قِيادية"، إلى أن وصله مكتوبٌ من مديرية التعليم، يخبره أنّه قد تمّ تعيينه مُدرسًا في مدرسة يافا بحي التفاح -وهي التي تلقّى فيها تعليمه بمرحلة الثانوية".

وأثناء عمله في مدرسة يافا، وصلت المبيض رسالة من "مصر" عام (1965)، موقعة باسم الدكتورة دولت صادق رئيس قسم الجغرافيا بجامعة عين شمس، والتي أثارها اجتهاد المبيض فترة البكالوريوس، وأخبرته فيها: "لا تنسى نفسك، عليك إكمال تعليمك، وهذه خطة الدراسة وجميع ما سيلزمك، ورسومك تمّ سدادها". 

وكانت هذه الانطلاقة للمبيض، والتي أهلته للحصول على دبلوم الماجستير من جامعة عين شمس بمصر في نهاية عام 1966.

وفي الثاني من نوفمبر (1967) -ذكرى وعد بلفور المشؤوم-، نظّم طلاب المدرسة مظاهرة، فدهمت على إثرها قوة من جيش الاحتلال المدرسة، وسألت مدير المدرسة عن أسماء طالبين والمدرس المبيض، ثمّ اعتقلوه.

"سُجِنت لأيام بتهمة رفعي العلم الفلسطيني بالمدرسة، وتحريض الطلاب على جنود الاحتلال، ثم أخلوا سبيلي بكفالة مالية تقدّر بآلاف الليرات الإسرائيلية، شريطة أن أنتظر المحاكمة وحضور الشهود"، يقول المبيض، ويشير إلى أنّ محاكمته طال انتظارها واستمرت حتّى بداية الـ(1968).

ويتابع: "وقفت على باب المحكمة، واقترب منّي شرطي فلسطيني الهوية، وأخبرني عن تفاصيل الشخص الذي سيشهد ضدّي، وعرفت منه أنّه عميل لصالح إسرائيل"، وعند مواجهة المبيض للشاهد، سبّ الأخير الذات الإلهية، وهرب من المحكمة؛ بعدما انكشف أمره أمام وسائل الإعلام العالمية التي حضرت لتغطية الحدث؛ وبثته مباشرة.

وعند سؤال القاضي للمبيض عن مهنته الأساسية، أجابه "مُدرسًا"، فأغلق ملف القضية له وللطالبين، وبعد المرافعة التي أجراها المبيض، والتي واجه خلالها العميل "الإسرائيلي، قال له القاضي: "الأفضل لك أن تعمل محاميًا".

وعاد المبيض إلى مدرسته منتصرًا، ولضيق الأحوال المادية التي عصفت به، تمكّن ضيفنا من العمل في عدّة مدارس في ذات اليوم وهي "يافا، والزهرة، وصلاح الدين، والصناعة"، وكان يخرج من بيته في السابعة صباحًا، ثم يعود بالعاشرة ليلًا، يخبرنا سبب ذلك قائلًا: "كُنت مقبلًا على مرحلة الزواج، وأحببت أن تكون جميع تكاليفه من جيبي الخاص، حتى أكملت المبلغ المطلوب، وعقدت العزم".

طرفة الزواج

ولزواج المبيض حكاية طريفة، يحدثنا عن تفاصيلها قائلًا: "كان الفرح عصرًا، وفي يومها كُنت واعدًا طلابي بشرح درسٍ مهمٍ لهم، فذهبت إلى المدرسة وأعطيت الدرس، وتفاجأت بوفاة قريب أحد المدرسين، وأصررت على تقديم واجب العزاء قبل الذهاب إلى زفّتي".

كانت أجواء الفرح في منزل المبيض تعلو، لكنّه ركب في سيّارة المُدرسين، وأثناء ذهابهم إلى بيت العزاء في حي الشجاعية قبالة مسجد "رقية"، سُمع صوت انفجارٍ، وبعد أقل من دقيقة أحاطت دورية عسكرية المكان، وطلبت ممن في السيارة النزول، وثبّتتهم وطلبت منهم أن يديروا وجوههم إلى جدران المسجد، ولا يحركوا ساكنًا.

وبعد ما يقرب العشرة دقائق، سمعت أصوات زغاريدٍ، و-زامور- مركباتٍ، وسيارة عروسٍ مزينة بالورود، فصرخ صاحب مقهى مقابل للمسجد الذي وقعته أمامه الحادثة، ضاحكًا: "يا جماعة العريس يقف ضمن رافعي الأيادي، وهذا موكب زفاف عروسته" .

وتمّ الإفراج عن "المبيض" وترك سيارة زملائه بعد أن طلبوا منه العودة إلى منزله، وتركهم ورجع سيرًا على الأقدام، ليجد عمّه ووالده في حالة دهشة لا يحسدون عليها، وهو الآن يقيم في مدينة غزة، ورزقه الله بابنتان، و(13 حفيدًا).

 

أرهقتني مصاريف التأليف وجميع مؤلفاتي من جيبي الشخصي

 

وتوالت أعمال المبيض في السلك التعليمي، فمكث (11 عامًا) مُدرسًا في مدرسة يافا، ثم انتقل إلى دار المعلمات ليعمل فيها عامين، ومن بعدها تمّ افتتاح مدرسة الكرمل الثانوية وكان أوّل ناظرٍ لها، إلى أن وصل إلى التفتيش عام (1978) ومكث (17 عامًا)، وخلال هذه الحقبة فتح لنفسه الآفاق لكتابة الأبحاث والمطالعة، وإصدار الكتب.

متعة التأليف

يروي لنا "المبيض" حكايته مع أوّل مؤلفاته، والتي اتسمت بطابعٍ خاص في قلبه، يقول: "تولّدت لدي فكرة الجغرافية الفولكلورية، والتي تُعني بدراسة الإنسان وتاريخه والدراسات الشعبية، وأحاديث الأرصاد الجوية، وربطها بالأمثال الشعبية، وقدّمته عام (1985) لدار النشر المصرية".

وبعد عامٍ من تقديم أولى كتبه، وصله اتصالٌ من الهيئة المصرية العامة للكتاب، يخبرونه أنّه "تمّ قبول كتابك، وسيطبع صيف هذا العام"، وهنا يعبّر عن شعوره آنذاك بقوله: "لأوّل مرة في حياتي أشعر بطعمِ الفرح، ومصادفة قضيت ليلتي برفقة أحد أقاربي الذي قادني لحفل زفافٍ فلسطيني على نهر النيل".

وتوالت إصدارات ضيفنا، إلى أن أصبح (25 مؤلفًا) يملؤون المكتبات كُتب عليهن "تأليف سليم المبيض"، و(8 آخريات) شارك في تأليفهن مع آخرين، و(4 كُتب) تحت إمرة الطباعة، وجميعهم يتحدث عن الجغرافية والتاريخ، والآثار، وعلم النقود، والسير الذاتية، والشخصيات الفلسطينية التي يكتب عنها لأول مرة.

ونتيجة مكانته العلمية، احتك "المبيض" بقياداتٍ فلسطينية من جميع التنظيمات، ولم يقبل بالانتماء لأيِ حزب سياسي، يقول: "لدي من العلاقات مع كل الجهات الفلسطينية، فكانت علاقتي بالرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ممتازة، وكثيرًا ما كان يستقبلني في بيته، وكذلك مع قيادات حماس، وباقي الفصائل الأخرى" .

ولأنّه أتقن الجغرافية بشكلٍ لافت، كثيرًا ما انتدبه "الراحل عرفات" ليشارك بالمفاوضات مع الجانب "الإسرائيلي"، ووزارة الخارجية المصرية-قسم الشؤون الفلسطينية- .

ولأنّ الأبحاث التي يحتفظ بها ضيفنا "كثيرة"، لم تخدمه الظروف المادية بأن يطبعها، يستطرد: "حُلمي أن أمتلك مؤسسة أبحاث ودراسات خاصة(..) أرهقتني مصاريف الطباعة، فأصرف نصف راتبي الذي أتقاضاه من المعاش لشراء ما يخص دراساتي، بالإضافة إلى النفقات التي أنفقتها على الطباعة والتصوير وإعداد الكتب".

كان لقاء "الرسالة نت" الأخير مع "المبيض" في مكتبه الذي وعدناه بأن نلتقي به مجددًا، وتركناه يكمل وقته بين الكُتب كما اعتاد أن يقضيه من السابعة صباحًا حتى الثانية عشر ليلًا، ونقلنا نصيحته التي تركها لقارئ هذه السطور: "عليكم بالقراءة، فإنّها تطيل العمر، وتنسي الهموم، وتعطيكم المتعة، وتبعد المشقّة، وستكون لكم متنزهًا للراحة وبر الأمان".

 

الزميل محمد أبوزايدة يحاور المؤرخ والباحث الفلسطيني سليم المبيض



IMG_3640.JPG

 

 

اخبار ذات صلة
فِي حُبِّ الشَّهِيدْ
2018-04-21T06:25:08+03:00