بينما يمتزج الغبار بالدم، تلتقط عدسة الكاميرا مشهداً سخيا بالحزن، بقايا لحم بشري معجون مع الخبز، وأشلاء إنسانية تملأ المكان. لكن، على الرغم من ذلك فهو خبر أقل من عادي في "عالم متمدن"، كهذا.
في حلب، يموت الناس قصفا، لا خبر جديد ولا مسألة مهمة، ولا فرضيات فوق الخبر ولا تحته، فرائحة الموت هناك أوضح من كل الصور. مئتان وأكثر، ومثلهم جرحى وأكثر، ولا عدد صحيح للقتلى المساكين، فمنذ أسبوع تقريبا يشن نظام الأسد وحلفاؤه هجوما على مدينة حلب.
سرب طائرات فوق المدينة المدمرة ترمي براميلها المتفجرة بكل رحابة صدر، وبيوت تتدلى، بيتا تلو الآخر من أثر القصف، والجثث أيضا تتكدس فوق بعضها، وتنهار المستشفيات بلا رأفة أو إحساس بالإثم.
في حلب، حيث المشهد كله بالأحمر، طفل على رصيف بيته قُتل، وأمه راحت تنتحب على بقايا ثوبه الممزق، وأبوه الذي أغلقت الدنيا أبوابها في وجهه، أخذت يديه بلا قصد نحو السماء ترتفع. وفي الركن الآخر من زاوية الحي المدمر، طفل من تحت الأنقاض يتنفس ببطء، ومراسل لقناة إخبارية على عجل يوثق المشهد، وناشط يكتب على جداره "لم يمت هذا الطفل إثر معجزة سماوية"، وأخر يعلق "حلب تحترق"، ونشارك الصور الواصلة عن الموت بكل ألم، ولا شيء آخر سوى العجز. الطائرات لن يوقفها كل هذا الدم النازف، فمنذ قرّر الأسد أن يحرق ما تبقى من أجسادنا الذابلة، لن يكون التراجع عن المجزرة أمراً مهماً، أو فرضاً دولياً، فهو يحترف ذلك، والغطاء دولي بلا شك.
منذ أعوام وسورية تشهد المجزرة بعد الأخرى، والمذبحة بجانب المذبحة. لذلك، لا داعي للجزع حول ما يحدث اليوم في حلب، وما دامت منازل المدنيين صارت قبورا لهم، فذلك احتراما لقيمة الوقت، حيث لا كارثة تستحق التعليق بأكثر من القلق أو الشجب.
في حلب، على الناس أن يتذوقوا الموت بسكينة، من دون أن يأخذوا صور تذكارية قبل الهجرة الأخيرة إلى الله، فلن يكون مهماً بالنسبة لهم كل هذا الهذيان، والصور أيضا ملت من رصد الموت من دون نفع آخر، سوى حرق ذاكرة الأحياء.
في سورية، الشجاعة الآن أن تموت ضحية، من دون أن تنتظر مزيدا من الوقت، أن تموت مجهول الوقت، إثر قذيفة حارة، أو لعلك تفقد آخر قطرة من دمك الساخن، بسبب برميل متهور، أو أن يطوّق التراب جسدك، من دون أن يعرف الناس اسمك. وربما الشجاعة وحدها الصفة التي تليق بالناس هناك، فهم الصامدون على أي حال، ونحن الذين نحترق بالعجز.
ليس بالضرورة أن يهتم بنا العالم، بقدر ما سيبرهن دم هؤلاء مدى تواطؤ الجميع في كل هذا الوجع، حيث لا جديد في ضمير الأحياء، إذ كل ما يحدث كردة فعل فيض عاطفي للخروج عن رتابة الإحساس بالحزن الذي أصابنا منذ أعوام، فكم من الأرواح التي أزهقتها رصاصة، أو قذيفة بَلْهَاء، لكن حلب اليوم هي من تريد أن تتصدّر المشهد بكل قساوة، وليست حلب اليوم قضية مجزرة وحسب، بل الرجفة الأخيرة ما قبل الاحتضار، لأن السكوت على ما يحصل هناك دليل على افتقاد البشرية قدرتها على إيقاف الدم. لذلك، نحن نرتجف من موت الإنسانية فينا، وليس فقط بسبب تأثرنا بصور المجازر القادمة من هناك