تصور التونسية إيناس العباسي في روايتها "إشكل" الكوابيس التي كانت سائدة في تونس قبل ثورة الياسمين، وكيف كان يتم الفتك بالناس عن طريق الأجهزة الأمنية، وعبر تسليط بعض المواطنين كمخبرين على بعضهم بعضاً، والهيمنة على مختلف تفاصيل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والجامعية، ومحاولة تنشئة أجيال بعيدة عن روح العصر، محكومة بالقبضة الأمنية ومستكينة للاستبداد ومذعنة له.
تستهل صاحبة "حكايات شهرزاد الكورية" روايتها بمشهد جثة مرمية على شاطئ بحيرة محمية إشكل، الجثة لفتاة اسمها نجوى، تعمل في أحد المصانع القريبة، يتحول موتها إلى حديث البلدة برمتها، تنشط التخمينات عن أسباب الجريمة ودوافعها، وما إن كانت انتحرت أو تم قتلها، ثم يصل الأمر إلى تشكيك كل واحد في نفسه، واحتمال إسهامه في الجريمة بطريقة ما.
تقسم العباسي روايتها إلى ثلاثة أجزاء، كأنها ترميز لمرايا الجغرافيا والتاريخ والواقع، هي: "مرآة الأرض"، "مرآة الصحراء"، "مرآة البحر"، تقارب عبرها تاريخ المدينة، وترصد المتغيرات الطارئة عليها وتأثيراتها على الناس فيها، وسبل النظام السابق لضرب معارضيه، وتصفيتهم، وبث ثقافة الذعر والتشكيك بين الناس.
جريمة قتل
تسرد العباسي كيف تتحول حادثة قتل إلى شرارة لكشف دواخل الناس وخباياهم، إذ يبدأ كل واحد تخيل مواقفه السابقة مع الفتاة المقتولة، وكيف أنه كان قاتلاً محتملاً، أو ربما عاشقاً متكتماً لها، كما بدأت بعض النسوة تذكرها وتلفيق قصص متخيلة عنها، منها ما يسيء إلى سمعتها ومنها ما يرثيها، وفي مختلف الأحوال تكون مثيرة للاهتمام وباعثة على القلق في النفوس.
ترمز العباسي إلى أن جريمة القتل المدونة ضد مجهول تكشف عن الروح الإجرامية القارة في نفوس كثيرين، وواقع أن كل واحد يمكن أن يكون مشروع قاتل إذا وجد نفسه في ظروف معينة، وربما يختار القتل انتقاماً من القمع الذي يعانيه، ليفجر الضغط في وجوه غيره، وينقل مشاعره السلبية إليهم.
تنقل صاحبة "هشاشة" اعترافات بطل الرواية بالقتل، وواقع أن حياته استحالت إلى جحيم بعد إقدامه على فعلته المشؤومة وإذعانه لقرار حبيبته نجوى، وكان يمارس انتقاماً من نفسه وأبيه وماضيه ومجتمعه ومستقبله، يقرر الانتحار، وذلك بعد عدة محاولات لمعاقبة نفسه، منها حرق يده الآثمة التي قتل بها نجوى، وصولاً إلى قطع تلك اليد وكتابة رسالة والانتحار على شاطئ إشكل.
تختار العباسي أسلوب بناء الحبكة على حكايات متناثرة، متتابعة عن المكان وأهله، ترسم دائرة الرواية التي تختمها بمشهد انتحار مؤلم ومفجع؛ إذ يقرر قيس، وهو القاتل العاشق لنجوى، الذي لبى لها مطلبها الأخير بقتلها ليخفف عنها أوجاع السرطان الذي ينخر جسدها، ويساعدها على التخلص من أعباء حياتها، بحسب ما أقنعته، وكانت تختبر حبه بطريقة وحشية، بأن تدفعه إلى قتلها، وإقناعه بأنه يحقق لها رغبتها في موت رحيم.
يتبدى تأثر العباسي بأسلوب القصة القصيرة في عملها، حيث لكل فصل حبكته وتفاصيله الصغيرة، وتكون الصيغة القصصية على طريقة متوالية قصصية، مترابطة بخيوط لا مرئية، مثل المكان الواحد الجامع للتناقضات، والناس المنقسمين على أنفسهم، والبحيرة التي تبتلع أبناءها، والتأليب الذي يمارسه الناس بحقّ بعضهم بعضاً.
عين الذاكرة
في تصريح خاص للجزيرة نت أفادت العباسي بأنها كانت راكمت الحكايات في صندوق داخل ذاكرتها، وأنها انتقلت من الشعر إلى القصة كي تتمرن على كتابة الرواية، لكن عناصر القصة القائمة على التكثيف وزمنها القصير مختلفة عن عناصر الرواية، وذلك جعلها تفهم بأنها تستطيع أن تجمع شخصيات الحكايات المتراكمة في عقلها في حبكة واحدة فكانت روايتها "إشكل".
وتعبر العباسي في تصريحها عن اعتقادها بأنها حملت "إشكل" داخل عقلها منذ سنواتها الجامعية، حيث تقول إنهم وقتها في تونس كانوا يعيشون في ظل الخوف من التعبير والخوف حتى من التفكير.
وتذكر أن الحكايات كانت تتسرب خلسة في حلقات المراجعة للامتحانات وبعد أمسيات الشعر في الطرقات، حكايات اعتقال الطلبة وحكايات التجسس عليهم، وتشير أنها انطلاقاً من ذلك خلقت شخصية الضابط المتنكر، وكانت حكايات تعذيب الطلبة الذين يتم اعتقالهم تتهامس بها الأمهات في سيارات النقل العام.
كما تذكر أنها حتى بعد أن كتبت "إشكل" ما تزال تتذكر صوت تلك الأم التي تبكي غربة ابنها الذي تمكنت من تهريبه خارج البلاد بعد أن اعتقل وكسرت يداه، بالإضافة إلى حكاية مدينتها مدينة الفولاذ والمصانع مدينة "منزل بورقيبة"، فتقول "بقدر ما كنت أهرب منها كنت أشتاق إليها، وهكذا أردت أن أرسمها مثلما أراها بعين ذاكرتي".