نسجت خيوط الألم والمعاناة حكاية مقاوم أُسدل الستار عن الصفحة الأخيرة منها بعد حياة قضى فيها اثنين وثلاثين عامًا، خطّ فيها بدمه وعرقه سطور المواجهة والمقارعة مع محتل، كان يمثل فيها دورًا بطولياً خلف ستار الظل.
ومع رحيله، برزت محطات الخفاء والمواجهة التي شكل فيها عنوانًا أساسيًا في معركة الصراع مع عدوه، لتعلن عن أحد مؤسسي الجهاز الإعلامي لكتائب القسام الشهيد مصطفى الطهراوي، والذي وافته المنية بعد رحلة مريرة مع مرض السرطان.
الطهراوي امتزجت حياته بحسب إخوانه ومقربين منه، بين عمل مقاوم أخذ حياته واستولى على عقله وكل تفكيره، وبين بيت شكل فيه أنموذجًا في المحبة والحنان، ترك فيهما بصمة أشعلت النار في قلوب كل من رآه وعايشه، حسرة على فراقه.
وقد بدأت حياته الجهادية وهو في عامه السادس عشر، عندما كان أصغر من يعمل في جهاز الإعلام العسكري، وكان أحد مؤسسيه والعاملين فيه، رغم صغر سنه لم يعرف عنه أحد ماهية عمله والمهام المناطة به، بحسب أحد أصدقائه.
وقد كشف صديقه أبو معاذ لـ"الرسالة نت"، فصولاً خفية من حياته الجهادية التي انتقل فيها بين عدة محطات داخل عمله العسكري، أبرزها في الجانب الإعلامي الذي كان يشكل أحد أعمدته.
ويقول أبو معاذ " كانت له بصمات كبيرة في تطوير مواقع الانترنت وإقامة كيان الكتروني للمقاومة بكافة أصنافها عبر الويب"، مشيرا إلى انه "أنشأ وصمم وبرمج عشرات المواقع الالكترونية للمقاومة، حتى بات لها عناوين ثابتة على الانترنت أضحى من الصعوبة على الاحتلال إسقاطها أو محوها".
وبيّن أن مصطفى كان أحد الجنود المجهولين الذين عملوا مع الشهيد رامي سعد، على الرغم من صغر سنه.
وأصبح الطهراوي خلية في العمل لوحده، حتى بات يشار إليه بالبنان بأنه واحد من القلائل الذين ينجزون مهامهم بدقة عالية وسرية تامة، بحسب صديقه، الذي أكد أن يوم استشهاد مصطفى كان متزامنًا مع يوم رباطه المجدول، والذي كان ينتظره فيه أصدقاؤه على أحر من الجمر كالعادة، لما كان يبثه فيهم من همم، وابتسامته لا تفارق وجهه حتى في لحظات حياته الأخيرة.
ورغم أهمية العمل الجهادي في حياة مصطفى إلا أنها كانت واحدة من أوجه الحياة التي عاش مصطفى كافة فصولها، وتجلت أحد أروع صفحاتها في حياته الشخصية التي كان فيها نعم الأب والزوج والابن، حتى استحق لقب والديه بـ"انه الأكثر برًا" بهم.
وقد أخذت صدمة الفراق قلوب محبيه من أهله، حتى عجز الكلام أن يظهر حقيقة الألم والمعاناة التي اكتوت فيها قلوب ذويه، بعدما أعلن عن وفاته، إثر إصابته بمرض غير مسار حياته، وحمله إلى قطار آخر غير مسار الدنيا.
وبدأت رحلة الألم والوجع، مع اشتداد مرض مصطفى، ومن خلال رحلة إجراءات الفحوصات الأولية لإجراء عملية جراحية، تبين إصابته بمرض السرطان، كما أخبر الشهيد كاتب الأسطر قبيل مغادرته لمصر من أجل رحلة العلاج.
ونترك لـمصطفى أن يتحدث عن حقيقة الألم الذي كان يشعر به بقلبه وعقله، إذ يقول " إن الخبر حطم قلبي وعقلي وكل من عرفني، وما كان يستنزفني هم أطفالي الأربعة مسلم وأحمد ونور والين، إذ جال في خاطري كل ما مر علي من ذكريات معهم حين كنت أداعبهم وأمرح معهم، ولم تغب عن مخيلتي ضحكاتهم التي لا تفارقهم".
وانتقل مصطفى للعلاج في مصر بعدما رفض الاحتلال استقباله، وهناك عاش فصولا ذاق فيها مرارة الحرمان والغربة، إضافة إلى مرارة الوجع والمعاناة من جفاء القريب.
ويؤكد والده لـ"الرسالة نت"، أن مصطفى لم يغادر الابتسامة ومداعبة أبنائه ووالدته وزوجته، حتى في أكثر لحظاته ألمًا، في وقت اندهش فيه أحد الأطباء المشرفين على حالته عبر حسابه على فيس بوك، "لإنه لم يجد شخصا محتسبًا وصابرا في مرضه مثل مصطفى وكان دائم الابتسامة وترديد الأذكار".
واشتد به المرض حتى نقل إلى العناية المكثفة بعد نزيف حاد أصابه، قبل أن تنقبض الأنفاس وتخرج الروح، ويتحول وجهه اسمر البشرة إلى بياض، كما يروي والده للرسالة.
ويقول والده أبو محمود إن نجله مصطفى كان عابرا في الحياة، ومتعففًا فيها، وحتى في لحظات مرضه الأخيرة، لم يكن يسمع فيها سوى كلمات الامتنان والدعاء والصبر.
وعلى نقيض حياته التي عاش فصول جهاده فيها خفيًا، كان رحيله مصحوبًا بالضجيج والبكاء، فخرج في جنازته المئات بل ربما الآلاف، بحسب ما رصد معد التقرير أثناء تشييع جثمان الشهيد.
وقد رحل مصطفى تاركًا خلفه أبناءه وزوجته دونما أن يطبع على جبينهم القبلة الأخيرة، بعد حياة أخفى فيها عن زوجته أسرارًا من حياته الأخرى، ولكنه باح بما يكفي ليخبرها أنها من ملأت حياته.