أرجوك اعتن بأمي، طرحت الكاتبة كيونغ سوك شين فيها العديد من القضايا، معظمها مبطنة، وقليلٌ منها جلية. غير أن محورها الأساسي لم يكن أن المرء منا يدرك قيمة الأشياء بعدما يفقدها كما اعتقد معظم الذين قرأوا الرواية، وإنما كانت تتحدث عن أن المرء سيقع في ألم غدق في حين يجعل من قيمة الأشياء بديهية لديه، دون أن يعتني بها، دون أن يعبر أن قيمتها تعني له شيئاً مهما في حياته، لا مجرد قيمة بديهية حتمية.
فالمرء منا مهما يكن، يدرك قيمة الأشياء لديه، غير أن معظمنا يجعل من قيمة الأشياء بديهية لديه، وتمضي الحياة به دون أن يعبر عن أهمية تلك الأشياء لديه إلا في حين أن يفقدها. عندئذ، ينزاح عنه تلك البداهة ويلتفتُ للقيمة التي كانت لديه فيما سبق بديهية حتمية؛ وهذا ما لا يسعفه في شيء، فحين يفقد المرء منا الأشياء القيّمة لديه، يكون الوقت قد فات عن اللحاق بها للتعبير عن أهميتها قبل أن تُفقد. وهذا ما كانت تذكره لنا الرواية بشكل مؤلم يفطر القلب جيداً كمحور أساسي لها.
تتحدث الرواية عن قصة عائلة كورية وفقدوا والدتهم بين الحشود في محطة مترو سيول، وانقلبت حياة أفراد العائلة رأسها على عقب، بعد فقدها.
في تلك اللحظة فقط، أصبحت الأم حاضرة في حياتهم، بعد أن كانت غائبة. وبدأت مسيرة البحث عن الأم المفقودة. الأم التي ضحت بنفسها جسداً وروحاً من أجل أبنائها وعائلتها ومن أجل أن تراهم دوماً سعداء.. هذه الأم الجميلة، والحزينة والعظيمة، تحملت كل أنواع الألم والعذاب من أجل أبنائها."
تثير هذه الرواية الكثير من التساؤلات الحزينة والجياشة، كيف لنا أن نتحمل فقدان إنساناً يضيع منا فجأة وبدون سابق إنذار وكأنه لم يكن؟
هل هذا ممكن إن يحصل..! وأين؟ كيف؟ ولماذا؟
الكوريون الجنوبيون، يتميزون عن كل شعوب العالم في استثارة مشاعرك سواء كانت سلبية كانت أم إيجابية، وأياً كانت وسائل الاستثارة إما عن طريق مسلسل، فيلم، رواية، مشهد، قصة، أغنية... إلخ، وأياً كان سبب استثارة مشاعرك أيضاً، أكانت سبباً تافهاً، جدياً، أياً يكن. إنهم جيدون جداً في ذلك متفوقُون عن كل بقية شعوب العالم. رغم أنه في مرات تلاحظ أن مشاعرك أثيرتْ لأسبابٍ تافهة، وأحياناً أسبابٍ حقيقية بحتة إلا أن بعيداً عن الأسباب والوسائل، الكوريون الجنوبيون، جيدون جداً حقاً في استثارة المشاعر، وجعل كل شيء عاطفي بشكل جنوني. وكانت الكاتبة كذلك في الرواية، إذ أن الرواية منذ الوهلة الأولى، من العنوان، الغلاف، تثير فيك كآبة. وحين تشرعُ في القراءة شيئاً فشيئاً، يغشى عليك كم هائل من الكآبة، الحزن، الأسى، الخوف، الشفقة. ولا تدري حتى لم يحدث ذلك معك؟
مع ذلك، في حين أن الكاتبة تبين للقارئ بشكل جلي لحد ما في بداية الرواية عن سبب تسميتها: "أرجوك اعتن بأمي"، والقصة الرئيسية أيضاً؛ إلا أن الكاتبة كانت تجبر القارئ دون جهد منه أن يكمل القراءة بأسلوب ذكي منها، بالمشاعر التي كانت تبثه في نفس القارئ، دون أن يدرك حتى هو لماذا يكمل القراءة في حين أنه يعلم القصة بأكملها منذ بداية صفحات الرواية؟ ففي كل مرة كانت الكاتبة تمنح القارئ فكرة غريبة عما سبق وقرأهُ، تجبره على إكمال القراءة للتأكد عن تلك الفكرة! في حين يستمر في القراءة تمنحه فكرة أخرى من جديد. حتى يصل القارئ لنهاية الرواية وهو في عجب مما قد قرأه في كل فكرة.
غير ذلك، كانت الكاتبة جيدة جداً في تركيب الشخصيات دون أن تضع وجودها في الرواية. فحين يقرأ القارئ الرواية يجد كيف تصف له الكاتبة المواقف من عدة زوايا يرى منها شخوص الموقف ذاته من عدة زوايا، دون أن تبعث في نفس القارئ وجودها القسري اطلاقاً. فيقرأ القارئ الموقف ذاته من عدة زوايا دون أن يشعر وكأنه يعيد قراءة الموقف. في حين كانت الشخوص تتحدث عن المواقف ذاتها من زوايا وبطرق مختلفة تماماً. وهذه مقدرة إبداعية في الروايات، وليس من السهل صناعتها، إذ إنها تتطلب جهداً وإدراكاً جيداً وإبداعاً كبيراً؛ وهذا يمنح الرواية تقييماً إيجابيا كبيراً.
رواية مؤثرة وحميمة وحزينة، كل قصة أو ذكرى عنها تذكركم بقصة أو ذكرى عن أمكم لدرجة إنكم لا تكادون تعرفون؛ هل هذه الرواية تسرد قصص وذكريات أم تلك العائلة ؛ أم تسرد قصص وذكريات أمكم..؟
رواية من تأليف الكورية كيونغ سوك شين. باعت الرواية مليون نسخة في غضون 10 أشهر من إطلاق النسخة الأولى منها عام 2009 في كوريا الجنوبية، حظيت الرواية باهتمام دولي وفاز الكاتب عام 2011 بجائزة مان الآسيوية الأدبية وقد تم تكييفها لتَلأم كل من طبيعة العروض المسرحية والموسيقية.
موقع : جسد الثقافة