قائمة الموقع

الشيخ جرار: كلّما جاهرت بالحق تعتقلني "إسرائيل"

2016-06-28T11:30:30+03:00
الشيخ بسام جرار
الرسالة نت -محمد أبو زايدة

دخل قاعة امتحانات الثانوية العامّة، ولم يكتب سوى اسمه على ورقة الإجابات، وقدّمها للمراقب بعد مضي الوقت المسموح له بالمغادرة، فنظر إليه الأخير وقال له: "أحسن.. -بالناقص من إجاباتك-، وما إن تخطّت قدماه المكان؛ حتّى تلقّفه مُدير المدرسة، وأعاده إلى فصله بحجّة بقاء خمسة دقائق للمغادرة.

دخلا سويًا إلى القاعة، وأمسك المُدير ورقة الامتحان؛ وجدها فارغة عدا اسم الطالب بسّام جرّار، فتحدث معه عساه يقتنع بالتعليم، وبعد دقائق من الحوار، أمسك الطالب قلمه وبدأ برسوماتِ مادّة العلوم، وعززها بالأدلة القرآنية؛ وأكمل مسيرة الامتحانات التي توالت تباعًا، إلى أن زفّت المدرسة نجاحه بمعدّل (70%).

يقول جرّار المحاضر الجامعي، والمتخصص بدراسات الإعجاز العددي في القرآن الكريم: "كنّا أوّل دفعة تتقدم لامتحانات الثانوية العامة في عهد الاحتلال عام 1967، ولم يكن لدينا أمل بأن يتم الاعتراف بشهاداتنا وقبولنا في الجامعات بالدول العربية، وبعض الشباب اعتبر ذهابنا للاختبارات "مساس بالوطنية، وتطبيع مع الاحتلال"، لكنّ مُدير المدرسة أعاد الأمل لدي في خمس دقائق، وهو سر النجاح الذي وصلت إليه اليوم".

بكاء الطفولة وشقاوتها

يعود جرار بأدراجنا إلى صوت بكائه على يد "الداية"، التي أشرفت على ولادته وخروجه إلى الدُنيا في التاسع والعشرين من يونيو/حزيران 1948، بمدينة رام الله، يقول: "نشأت داخل أسرة مكوّنة من 7 ذكور و4 إناث، وكان والدي يتنقّل بنا كثيرًا في مدن الضفة نتيجة عمله حتى استقر بنا الأمر في مدينة البيرة".

اقتحم جنود الاحتلال منزلي لاعتقالي وأعمى الله أعينهم عن كتاب زوال دولتهم بالـ 2020

لم نتمكّن من مقابلة جرار وجهًا لوجه؛ نتيجة سياسات الاحتلال القائمة على عزل الضفة المحتلة عن قطاع غزة، لكنّ الهاتف المحمول قرّب تواصلنا الذي استمر لـ(3 ساعاتٍ) تحدثنا خلالها عن الطفولة التي غمرها حنان الجدّة، وشقاوة الصِغر، وحُب الإسلام، ومراحل التعليم، وتأليف الكُتب، وسنوات الاعتقال، والإبعاد إلى مرج الزهور، ومع انتهاء اللقاء دعانا ضيفنا ممازحًا "تفضلوا السحور.. لقد أصبح جاهزًا".

هناك في شق الوطن الآخر؛ قضى بسام طفولته مدللًا في أحضان جدّته، بعيدًا عن عصبية والده التي تشرّبها نتيجة عمله مدير جمرك مع السلطات الأردنية، وكانت أولى مراحل تعليمه في "الروضة" -يمكث فيها الطفل آنذاك عدّة سنوات-، والتي برز فيها نشاطه و"مشاكسته"، الأمر الذي حفّز والده على تسجيله بالمدرسة قبل موعده بعامين، لكنّ الطفل الصغير رفض.

يخبرنا بطريقة رفضه: "اصطحبني والدي إلى مُدير المدرسة، الذي اقتنع بما أملك من حفظٍ للغة العربية، وموهبةٍ في الرسم والرياضيات، وعندما قابلته؛ أراد اختباري بسؤالٍ، وتعمّدت إجابته بشكلٍ خاطئ رغم معرفتي بالإجابة، لأنني كُنت على قناعة بأنّ مرحلة الطفولة يجب أن أعيشها بحذافيرها، ولكل مرحلة متطلباتها التي يجب أن تشبعها".

وكُلّما عاد والدهم إلى بيته مصطحبًا كتاب نقل مقر عمله، يقرر تغيير سكنه؛ ليوائم متطلبات العمل، وكان بسام يجدها فرصة سانحة ليتجوّل في مدن الضفة -سيرًا على الأقدام-، ويتفقّد معالمها التي حفظها منذ الرابع الابتدائي.

ويعقّب على تلك المرحلة قائلًا: "كنا نملك حريّة التنقل، ودائمًا يطمئن علينا أهلنا، ولم نعتد البقاء في مدينتنا نهارًا، بل نتجوّل في شتّى أرجاء فلسطين، وكثيرًا ما كُنّا نغامر من رام الله للقدس سيرًا على الأقدام؛ ذهابًا وإيابًا ولم نكن نتجاوز الـ (12 عامًا)".

رعشة إيمانية

ولم تتوقف حياة بسّام وعائلته على المدينة، فقد تنقّل إلى القرية أيضًا -ميسلون-، وعاش فيها حياة بدائية، ومارس الفلاحة، وركوب الحمير، وكُل ما رآه كان سببًا في شعوره بالسعادة والرضا الداخلي.

يقول جرار: "منذ المرحلة الإعدادية ربطني حُب الدين الإسلامي، وتمسّكت بعلومه، وكُنت كثير التردد على المساجد التي لم يتواجد فيها سواي من أبناء جيلي، وغالبًا ما كُنت أصلّي الفرائض أنا والإمام فقط، وكان الجهل منتشرًا آنذاك، ويغلب على المجتمع التفكير الشيوعي واليساري".

لو خيّروني بين منصبٍ حكومي أو يعلّق حبل مشنقتي أمام عيني لاخترت الإعدام

لم يكن بسّام مُلتزمًا بصلاته، إلّا حينما عاد من مدرسته ظهرًا، وشاء القدر أن يقف أسفل مئذنة مسجد "العين"، وسمع المؤذّن يصدح "حيّ على الصلاة.."، فأصابته رعشة جسدية سرت داخل جسده، حتى بكى وعاد مسرعًا إلى بيته، توضّأ وقرر ألا يترك فرضًا منذ تلك الحادثة.

ومع مرور الوقت أضحى أبناء الحيّ يطلقون على بسّام لقب "شيخ"؛ منذ الثانية عشر من عمره، لا سيّما أنّه يحاجج مُدرسيه بأمور دينهم، ويلقي خطبًا على منصّة مدرسته، وشديد النهم في قراءة الكتب الإسلامية، واستمر اللقب مصاحبًا له، حتى درس أربع سنواتٍ في دمشق، ثم عادَ مُدرسًا لأهل بيته بأمور دينهم، ولمدينته بفقه الإسلام، ثم أصبح يمتلك سيطًا في أرجاء فلسطين، وازداد تعمّقه بالقرآن وعلومه.

منبت الشريعة

وتنقّل جرار في عدّة مدارس، فقد درس الابتدائية بالفاضلية بمدينة طولكرم، وأكمل الإعدادية بالبيرة الجديدة، والثانوية بالهاشمية، إلى أن أنهى مرحلة "التوجيهي" بمعدّل (70%)، وتمكّن من السفر إلى دمشق ودرس الشريعة الإسلامية.

"لم يكن في فلسطين جامعات نكمل من خلالها تعليمنا، وكان لزامًا علينا أن نختار دولة عربية لنشبع حاجتنا للعلم"، يقول جرار، ويشير إلى أنّه اختار دمشق نظرًا لسهولة تكاليف العيش فيها، والتسهيلات التي تقدّمها لطلبة العلم، وتعمّقها أكثر من غيرها في أمور الشريعة الإسلامية.

ومع عودته لأرض الوطن، رسم جرار خطّة أمام عينيه بنشر ما بجعبته في ربوع فلسطين، تحت قاعدة "الفكرة التي لا تتحرك تموت في مهدها"، وأصبحت مساجد المُدن تخصص له دروسًا فيها، مثل مسجد "عين"، ومسجد "البيرة الكبير"، وكثيرًا ما تواصلت معه الجامعة الإسلامية بغزة ليلقي لها ندوات -قبل فرض الحصار على القطاع-، وأصبح يرتبط بشبكة علاقاتٍ مع مشايخ في دول عدّة.

الإعدام أكثر حبًا لقلبي من اللهث وراء المناصب

"كُنت أجاهر بالحق؛ فتعتقلني إسرائيل"، يقول جرار، ويخبرنا أنّه تعرّض للاعتقال الإداري سبع مرات، وجميعها على خلفية "نشر الدعوة، والتحريض على دولة الاحتلال".

يتابع حديثه عن أوّل اعتقالٍ قضاه في سجون الاحتلال عام 1985: "كان ربط السياسة بالدين حالة شاذّة في ظل حُكم إسرائيل، وكانت تُهمتي أنني أحرّض على دولة الكيان، ومكثت ستّة شهورٍ إدارية".

مرج الزهور

وفي مساءِ يوم أحد أواخر عام 1987؛ ألقى الشيخ جرار خطبته في مسجد "البيرة الكبير"، وكانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى قد اشتعلت، وبدأ يحلل البيانات التي يزورها الاحتلال بأسماء تنظيمات مختلفة، ويضع رؤيته لسير العمل حتى يؤتي ثماره، لكنّ الأمر لم يرق للاحتلال؛ فنصب له كمينًا أثناء عودته من مدينة بيتونيا مُتجهًا إلى رام الله، ولم يتعرّف عليه جنود الحاجز إلا من خلال صورته التي كانوا قد شاهدوها على الشرائط المسجّلة لخطبه.

وعند الساعة الواحدة ظُهرًا من يوم سبت ديسمبر عام 1992، طرق جنود الاحتلال الباب بأعقاب بنادقهم، فترك جرار أوراقه التي كان يُعدّها لكتابٍ تحت اسم -زوال إسرائيل عام 2022-، وفتح الباب، فأزاحه الجنود يمينًا ودنّسوا ببساطيرهم المكان وقلبوا المنزل رأسًا على عقب؛ ولم يجدوا شيئًا يُدين ضيفنا.

يعقّب على الحادث مرسلًا ابتسامة تسللت عبر الهاتف: "الغريب أنّهم فتشوا المنزل، ولكن الله أعمى عن أعينهم الأوراق الموضوعة في منتصف البيت أمامهم؛ والتي تتحدث عن زوال دولتهم".

لم أفكر بالزواج إلا بعد ثلاث عقود عقب مقلبٍ من صديقٍ لي

اقتادوه جنود الاحتلال إلى أحد السجون "الإسرائيلية" بمدينة رام الله، وأغموا على عينيه؛ وأخرج الضابط كشفًا بأسماء الأسرى مبدوءًا بـ "بسام جرار"، وتنقلوا بهم ما يزيد عن (17 ساعة) متواصلة داخل باصٍ قارب على الهلاك من رداءته، إلى أن أبعدوهم فجر الثامن عشر من ديسمبر 1992 إلى مخيم مرج الزهور جنوب لبنان.

وأوكلت إلى ضيفنا مهمّة المشاركة في اللجنة الإعلامية داخل "مرج الزهور" جنوب لبنان، ومن ضمن ما يستحضره مقولة تحدث بها؛ وحازت على نشرٍ واسع عبر وسائل الإعلام العالمية، رافقه غضب إسرائيلي، قال: "لأنّ اليهود يمتلكون القوّة؛ استطاعوا إبعادنا عن بلادنا، والقانون الذي وضعوه يقول إن استنفذت موازين القوة؛ يجب أن نخرجهم من أرضنا، والقوي يُخرج الضعيف".

عامٌ بأكمله أمضاه جرار في الإبعاد؛ وحاول التأقلم مع الوضع الذي فرضه الاحتلال عليه، حتّى قرر الأخير إعادتهم إلى بلادهم؛ ومع عودته إلى ذويه؛ باشر عمله في الخطب الدينية، وتأليف الكُتب والأبحاث، وطباعة كتاب (زوال إسـرائيل عام 2022م، نبوءة أم صُدَف رقميـة).

كما أنّه ألّف العديد من الكُتب ومن أبرزها: "دراسات في الفكر الإسلامي، ورسائل نون، ونظرات في كتاب الله الحكيم، ومن أسرار الأسماء في القرآن الكريم، وسياحة الفكر، ومقالات في التفسير، وإعجاز الرقم 19 في القرآن الكريم مقدمات تنتظر النتائج، وإرهاصات الإعجاز العددي في القرآن الكريم، والميزان، وبحوث في العدد القرآني، ولتعلموا عدد السنين والحساب".

ويبدو جرار زاهدا في المناصب الحكومية، وعن ذلك يقول: "لو خيّروني بين منصبٍ حكومي أو يعلّق حبل مشنقتي أمام عيني، لاخترت الإعدام على حمل مسؤولية كبيرة لا أقوى عليها، أو اللهث وراء المناصب؛ لأنّي أدرك تمامًا عِظمها التي ستكون ملقاة على عاتقي حينما أكون مسؤولًا عن أرواح بشر، ويجب أن تفني حياتك ليلًا ونهارًا حتى لا يقال إنّ طفلًا قد بات جائعًا، وهذا فوق طاقتي".

رحّالة الجامعات

عاش جرار حياته رحّالة في الجامعات الفلسطينية لنشر العلم، وأسس العديد من الجمعيات الخيرية، والتي ينسحب منها جرار بعدما يشتدّ عودها، ومنها لجنة زكاة رام الله، ومركز نون للدراسات، والذي يقضي فيه جُل وقته بكتابة الأبحاث، والإجابة على التساؤلات، ونشرًا لمقالاته التي تستحوذ على معظم وقته ولا تبقي من يومه سوى (8 ساعات) يخلد فيها لنومه.

أؤمن أنّ "إسرائيل" ستزول عام 2022 ونُظم القرآن ليست محض صدفة

وتميّز ضيفنا بكتاباته في الإعجاز الأدبي؛ وموضوع العدد القرآني، ومنظومته، والتي تتحدث من خلال اطّلاعه وبحثه عن قضية زوال دولة إسرائيل عام 2022، والتي وضعها ضمن كتابٍ نُشر في الأردن ولبنان ودول عربية أخرى، واعتمد خلالها على أرقامٍ وُجدت بالقرآن الكريم، ربط أحداثها ليستعين بها على التوصل لاستنتاج تام.

وفي حديثه عن تمسّكه برأيه، يقول أنا أؤمن بنسبة (97%) أنّ إسرائيل ستزول عام 2022، ونُظم القرآن التي تتحدث ضمنيًا عن ذلك؛ لا يعني أنّها محض صدفة.

وبعيدًا عن كُتب جرار التي وضعت في مجلدات؛ انتقلنا معه إلى شطره الآخر من الحُب، حيث حدثنا عن قلبه وما يهوى من ترابطٍ أسري داخل عائلته، يقول: "قارب عمري على 31 عامًا وقد شغلتني أبحاثي عن الزواج، وعقدت قراني دون تخطيطٍ لذلك".

يتابع: "اتصل بي صديق لي، وقال لي: "ذهبت لفلان وخطبت لك ابنته"، فلم أستصغ هذا الفعل، فاعتذرت له، وخشيت من مقلبٍ آخر، وذهبت إلى بيت صديقٍ أعرفه، لديه فتاة تدرس الشريعة الإسلامية بالجامعة الأردنية، ووجدت فيها كُل ما حنّ قلبي وعقلي إليه، وخلال يومين تمّت خطبتنا، وقد رزقني الله منها خلال ثلاثة عقودٍ من الزواج؛ ثلاثة أبناء، وفتاتين".

وقد أسمعنا الشيخ جرار صوت "المسحراتي" بغزة وهو يطرق على دفّه؛ ليوقظ الناس إلى سحورهم، فاستأذناه بنصيحةٍ يتركها لمن يقرأ حواره مع "الرسالة"، فقال: "استثمروا وقتكم أنّا شئتم؛ ولا تجعلوا الدُنيا تُلهيكم عن آخرتكم، وارسموا خطًا تسيرون عليه لتفلحوا في نهايتكم، فقد جئتم إلى الدُنيا غير مختارين، وستغادرونها مجبرين".

اخبار ذات صلة