أخرج أواني الطعام وبدأ بتعبئة "صواني الأرز" على أحد أرصفة شارع رئيسي، وسط غبار عوادم السيارات المنبعثة من المركبات التي تسير بإحدى مخيمات مدينة غزة المكتظة بالسكان، فحاصل الطباخ محمد السيد (اسم مستعار) ممتلئ جله بأدوات وأواني الطبخ، إلى جانب فرن النار الملاصق لأنابيب الغاز.
ويفتقر الحاصل الصغير المسمى "مطبخ" إلى أدنى مقومات النظافة؛ فيوجد بداخله دورة المياه وبجانبها الأغذية المجهزة للاستخدام في الطهي، فيما كانت وسائل الأمن والسلامة التي يشترط توفرها في المطابخ وفق القانون الفلسطيني معدومة!
استدعى ذلك معد التحقيق للقيام بجولة ميدانية عشوائية في مناطق مختلفة من القطاع ليجد أن مطبخ "السيد" ليس الوحيد في افتقاره للنظافة والأمن والسلامة، مما دفعنا لدق ناقوس الخطر وطرق أبواب الجهات المختصة.
أغلب المطابخ -التي أخذتها الرسالة كعينة-كانت خالية من المواصفات والشروط التي يمنع أي مطبخ من العمل بدون توفرها، بينما يستمر أصحابها في تجاوزاتهم التي تشكل تهديدا لأرواح المواطنين، وما الذي يمنع تكرار حادثة "مطبخ حرب"؟.
وتسببت حادثة احتراق مطبخ يعود لعائلة حرب في مخيم جباليا، وقع قبل سنوات، بوفاة 10 مواطنين وإصابة أكثر من 50 آخرين، بعد انفجار أنبوبة الغاز داخل المطبخ.
ووفق تقرير جهاز الدفاع المدني آنذاك، فإن حريق المطبخ نتج بسبب تلف أحد الخراطيم بين أسطوانات الغاز؛ ما أدَّى إلى اشتعال النيران ووصولها إلى بقية الاسطوانات الأخرى.
تلك الحادثة ليست الوحيدة، فقد تبعتها عدة حوادث كان آخرها في الثالث من شهر مارس العام الماضي عندما انفجرت إحدى اسطوانات الغاز في مطبخ العمدة بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة، وتسببت بوفاة مواطن وإصابة 15 آخرين.
الدفاع المدني: قلة الجولات التفتيشية بسبب العجز في الكادر البشري والمادي
وتنص المادة الثانية من قانون الصحة العامة رقم (20) لسنة 2004م على ضرورة ترخيص الأعمال والحرف والصناعات الغذائية وأماكن بيعها ومراقبتها، كما يحظر تداول الأغذية الخاصة أو الإعلان عنها إلا بعد تسجيلها والحصول على تراخيص بتداولها من الجهات المسؤولة وفق المادة (22) في القانون.
ويشترط في منح تراخيص مطابخ الطعام الحصول على موافقة أربعة جهات: البلديات وجهاز الدفاع المدني ووزارتا الصحة والعمل.
منشآت خطرة
وتعد المطابخ من المنشآت الخطرة حيث تنقسم إلى قسمين قائمة وأخرى غير قائمة، وفي القسم الأول يجري توفير الإجراءات حسب فئة المكان بينما يطلب من صاحب المنشأة غير القائمة إحضار مخطط؛ لتوفير وسائل الأمن والسلامة خلال تأسيسها، وفق ما قاله الرائد محمد عبده مدير دائرة التفتيش والمتابعة في إدارة الأمن والسلامة بجهاز الدفاع المدني في قطاع غزة.
وأوضح عبده في حديثه لـ"الرسالة" أن إجراءاتهم تمنع تواجد أي أنبوبة غاز داخل المطبخ، وضرورة توفير شبكة نحاسية لمجمع الغاز في مكان آمن خارج المطبخ بعيداً عن درجات الحرارة مع وجود مسافة فارقة بين المجمع والمطبخ حتى تكون بعيدة عن النيران.
وأضاف أن إجراءات جهازه تنص أيضاً على ضرورة وجود طفايات للحريق تتناسب مع مساحة المطبخ الذي يجب ألا تقل مساحته عن 100 متر، بالإضافة إلى توفير تهوية طبيعية أو صناعية "شفاط هوائي" لعمل تيار هواء داخل المطبخ.
وأكد عبده أن المطبخ وفق القانون يجب أن ينقسم لثلاثة أقسام: قسم استقبال الجمهور، وقسم الطبخ، وقسم تخزين المواد الغذائية، وجميع تلك الشروط لم تجدها "الرسالة" في كثير من مطابخ غزة.
وأشار إلى أن جهاز الدفاع المدني يعتبر المطابخ من المنشآت الخطرة التي يجب التركيز عليها، مبيناً أنهم يجرون جولات غير دورية على المطابخ آخرها سبقت شهر رمضان.
ولفت عبده إلى أن الزيارة شملت ما بين عشرين إلى خمسة وعشرين مطبخا في غزة "فقط"، ثمانية منها لم تحصل على ترخيص الدفاع المدني.
وأرجع قلة الجولات التفتيشية إلى وجود عجز في الكادر البشري والمادي وقلة عدد الطواقم المختصة بالتفتيش مقارنة مع مسؤوليتهم الكبيرة في التفتيش على المنشآت التي تعد المطابخ واحدة منه.
البلدية مسؤولة
وبالانتقال إلى دائرة الطب الوقائي بوزارة الصحة فإن مديرها المهندس محمود حميد، قال إن أهم الشروط في مكان المطبخ لمنح موافقة وزارته ألا يسبب ضررا للمواطنين، مع ضرورة توفر الشروط اللازمة والخاصة بالمطبخ.
وأوضح حميد في حديثه لـ"الرسالة" أنهم يجرون فحصا للعاملين بلا رسوم من أجل التأكد من سلامتهم وعدم حملهم للأمراض، إلى جانب زيارتهم الميدانية للمطابخ على مستوى قطاع غزة.
وأكد أن بعض المطابخ مخالفة لجميع الشروط وغير حاصلة على ترخيص ومستمرة في عملها، محملاً مسؤولية ذلك للمؤسسات الرقابية كلها.
وأشار حميد إلى أن وزارته رفضت منح تراخيص لبعض المطابخ من الناحية القانونية، إلا أن البلدية منحتها الرخصة وتجاوزت رأي وزارته التي ترفض الموافقة على وجود تلك المطابخ من الناحية الصحية.
الطب الوقائي: رفضنا الموافقة على بعض المطابخ والبلدية منحتها الترخيص
وأضاف "يبدو أن البلدية لها منظورها الخاص في هذه القضية، ونحن بدورنا نرفع لهم متابعة وإغلاق تلك المطابخ لعدم صلاحيتها، والمفترض إغلاقها وهو ما تتحمل مسؤوليته البلدية بشكل رئيسي".
ووفق الإحصائية، التي حصلت عليها "الرسالة" من وزارة الصحة حول أعداد المطابخ، تبين أن عدد المطابخ في محافظة شمال قطاع غزة 31 مطبخ منها 5 مطابخ مرخصة "فقط"، بينما وصل عدد المطابخ غير المرخصة في مدينة غزة 6 من أصل 24، فيما وصل عدد المطابخ في مدينة رفح 13 وفي خانيونس 24 دون أن تفيدنا الوزارة بأعداد المرخص منها.
وبالعودة إلى الرائد عبده فإنه ألقى اللوم على تقصير البلديات، متهماً إياها بتجاوز الدفاع المدني في منح بعض التراخيص للمطابخ من أجل تسريع معاملة الترخيص، الأمر الذي يشكل خطرا بسبب تجاوز إجراءات الأمن والسلامة في المطابخ.
وبين عبده أنهم جهة تابعة في قضية منح تراخيص المطابخ، مؤكداً أن الجهة الرئيسية بمنح التراخيص هي وزارة الحكم المحلي "البلديات".
وهنا تلاحظ "الرسالة" ضعف التنسيق بين الجهات المعنية وإلقاء كل طرف باللوم والمسؤولية على غيره، فيما يتحمل المسؤولية جميع تلك الجهات وفق القانون الفلسطيني.
لا نتجاوز أحدا
وعلى وقع تبادل الاتهامات بين الجهات الرقابية، انتقلنا إلى بلدية مدينة غزة، وهناك التقينا برئيس قسم مراقبة الأغذية وتراخيص المهن الصحية في البلدية رشاد عيد، الذي نفى بدوره قيامهم بأي تجاوز لوزارة الصحة أو جهاز الدفاع المدني في منح تراخيص المطابخ.
وشدد عيد على أنهم لا يمنحون الترخيص إلا بعد الحصول على موافقة الدفاع المدني ووزارة الصحة. وقال إن بلديته أكثر صرامة من باقي البلديات الأخرى في الرقابة والضبط للمطابخ داخل حدود نطاق عملهم.
وأضاف "المشكلة في الوزارات الحكومية أنها لا تريد أن تقوم بدورها المطلوب، فالبلدية بدأت بترخيص الحرف بعد العام 2010، بينما كان ترخيصها في السابق مركونا على رف وزارة الصحة وتعطي موافقتها بعد ثلاثة شهور، وعند الكشف على المطابخ التي وافقت عليها الصحة نجد أنها غير مستوفية للشروط"، وفق قوله.
بلدية غزة: الوزارات الحكومية لا تريد أن تقوم بدورها المطلوب ولم نتجاوز أحدا
وتحدى عيد أن يكون قد وصلهم من وزارة الصحة على رأس الخصوص أي مخاطبة أو توصية لإغلاق أي حرفة كانت، مشيراً إلى أن البلدية هي من تقوم بمخاطبتهم.
ويقول موسى أبو سعدة رئيس شعبة تراخيص الحرف في بلدية جباليا شمال قطاع غزة، إن 90% من المطابخ التي تتقدم لهم بالترخيص يتم رفضها؛ لأنها "عبارة عن حاصل صغير" وتخالف الشروط.
ويضيف أبو سعدة أنهم لا يستطيعون إغلاق جميع المطابخ؛ لأن ذلك يتسبب بخلل في النسيج المطلوب، مما يستدعيهم القيام بإبلاغ وتحذير صاحب المطبخ أكثر من مرة.
وأشار إلى أن إغلاق المطابخ يتسبب بضجة كبيرة وامتعاض من المواطنين، موضحا إلى أن الحكومة توصيهم بتقنين الاغلاقات، بسبب الوضع المعيشي الصعب، على حد قوله.
وهو ذات الأمر الذي أكده باسل أبو القمصان نائب رئيس البلدية، الذي أكد أنهم يقومون بإخطار أصحاب المطابخ أكثر من مرة، وأن الشرطة تقنن إغلاق تلك المطابخ مراعاة للظروف المعيشية الصعبة.
وأوضح أبو القمصان في حديثه لـ"الرسالة" أنهم حريصون على تطبيق النظام، لكن الوضع الاقتصادي يمنع الإغلاقات في بعض الأحيان، واضطرارهم إلى إعطاء أصحاب المطابخ فرصة لعدة شهور من أجل تسوية أوضاعهم.
استغلال التساهل
ويحمل نائب رئيس بلدية خانيونس المهندس صلاح عبده المسؤولية لاستهتار أصحاب المطابخ لتساهل الجهات الرقابية معهم، واستغلالهم ذلك ومخالفة القوانين والشروط المطلوبة.
"العمل": لسنا جهاز مخابرات نضع على كل مطبخ مفتش عمل ونواجه عجزا في عدد المفتشين
وبحسب الاحصائية التي حصلت عليها "الرسالة" من بلدية مدينة خانيونس فإن إجمالي عدد المطابخ في المدينة 12 أربعة منها غير مرخصة، والمفارقة العجيبة أن تلك الاحصائية تتضارب مع إحصائية وزارة الصحة التي أفادتنا بها وقالت إن عدد المطابخ في خانيونس 24 مطبخ!!.
ومن المفارقة أيضاً أن الجهات الرقابية تكشف على المطابخ التي تتوجه لطلب الترخيص فيما لا تطرق أبواب المطابخ التي تعمل بدون أي ترخيص إلا في قليل الأحيان، ما يجعل أصحابها يتركون "الحبل على الغارب".
وفي محاولة "الرسالة" التنقيب في القانون الفلسطيني الخاص بتلك المنشآت، فإنه وحسب قانون العمل الفلسطيني رقم 7 سنة 2000، فالجهة المخولة بتطبيق ومراقبة قانون العمل الفلسطيني المتعلق بشروط العمل التي من ضمنها ظروف العمل المتعلقة بالسلامة والصحة المهنية في المنشأة حسب المادة 90 و91 هي الإدارة العامة للتفتيش وحماية العمل بوزارة العمل.
ذلك استدعى "الرسالة" لطرق أبواب وزارة العمل، والتحدث مع نائب مدير عام التفتيش وحماية العمل المهندس شادي حلس، حيث أوضح أنهم يجرون زيارات تفتيشية على كافة المنشآت التي من ضمنها المطاعم والمطابخ حسب المادة 111 من قانون العمل الفلسطيني رقم 7 سنة 2000 والتي تنص على انه يحق لأي مفتش دخول أي منشئة دون سابق إنذار مع إشعار صاحب العمل بوجوده في المنشأة للاطمئنان والاطلاع على كافة شروط السلامة والوسائل الصحية الموجودة فيها.
وأكد حلس أنه وفي حال مخالفة شروط السلامة المهنية يتم إعطاؤه مدة محددة ويتم زيارة صاحب المنشأة، ثم إيقاع عقوبات بغرامة مالية أو غير ذلك حسب نوع المخالفة.
خبير تغدية: عدم إتباع شروط الصحة والنظافة يسبب تلوث غذائي وتسمم البكتيري للمواطنين
وعن وجود مطابخ مخالفة ولا تتبع إجراءات السلامة، قال حلس "نحن لسنا جهاز مخابرات نضع على كل مطبخ مفتش عمل، خاصة أننا نواجه عجزا في المفتشين بعدد 12 مفتشا فقط لكل محافظات غزة، لا يستطيعون أن يقوموا بزيارات دورية لهذه المطابخ"، وفق قوله.
وأشار إلى أنهم يقومون بزيارات دورية وعشوائية على المطابخ بشكل عام ويتم متابعتها "لكن الأمر نسبي وهناك بعض المطابخ في مناطق نائية ولم نصل إليها بعد"، وتابع قائلاً: "المسؤولية مشتركة ما بين كل الجهات ذات العلاقة".
تسمم غذائي
ولا تقتصر خطورة تلك المطابخ على عدم شموليتها إجراءات السلامة "فقط"، وإنما ما تنتجه في ظل مخالفتها للشروط المتعلقة بالنظافة والصحة معرض للتسمم الغذائي، وفق ما قاله خبير التغذية د. عدلي سكيك.
يشترط في منح تراخيص مطابخ الطعام الحصول على موافقة أربعة جهات، أولها البلديات وجهاز الدفاع المدني ووزارة الصحة وأخرها وزارة العمل.
وأوضح سكيك في حديثه لـ"الرسالة" أن عمل تلك المطابخ المخالفة وعدم اتباعها سلامة المكان والغذاء هو من أحد أسباب التلوث الغذائي والتسمم البكتيري. ولفت إلى ضرورة أن يكون التفتيش على تلك المنشآت بشكل دقيق واتخاذ قرار إغلاقها بشكل مباشر لما تشكله من خطورة على صحة المواطن.
وأخيراً فمن الضروري أن تعمل الجهات المختصة على تشديد التفتيش وإغلاق المطابخ المخالفة للشروط وإجراءات الأمان التي تهدد صحة وسلامة المواطنين لما تشكله من خطر كامن بين الأحياء السكنية.