كان تحولاً بارزاً في تاريخ الكيان الإسرائيلي أن يتراجع على حدود قطاع غزة قبل عدة أشهر، لتلافي مواجهة جديدة مع المقاومة الفلسطينية عبر مباحثات ضمن قنوات سرية، وذلك في سابقة لم تعرفها إسرائيل من قبل بـأن تخفض بندقيتها تجاه أصوات الرصاص القادمة من غزة، كما يقول المراقبون.
التحول الإسرائيلي الذي أثار اهتمام الأوساط السياسية والأمنية المتابعة لشأن الكيان، كان متأثرًا بانعكاسات نتائج العدوان الأخير على قطاع غزة صيف عام 2014م، والذي أجبر إسرائيل على ما يبدو على كبح جماح "المدافع" والبحث عن حلول سياسية كانت لوقت قريب محرمة من جانب الكيان.
وانعكس أداء جيش الاحتلال في العدوان الأخير، على سلوك قيادة المستويين السياسي والعسكري في داخل الكيان، ليظهر بجلاء أصوات تنادي بحلول سلمية لإنهاء قضايا غزة ومن بينها أصوات يمينية معروفة بتشددها كوزيري المواصلات والتعليم في داخل الكيان.
وبحسب مراقبين فإن هذه الأصوات جاءت تعبيرا عن وجود تحول داخل التفكير السياسي والإستراتيجي لدى الكيان بضرورة إرجاء الخيار العسكري في التعامل مع غزة إلى صالح تقديم أولوية البحث السياسي في حل أزماتها، وفي مقدمة المطالبين بهذا الحل رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو ووزيري جيشه والتعليم وهي الشخصيات الأقوى في الائتلاف الحكومي.
المختص بالشـأن الاسرائيلي محمود مرداوي، يشرح الجوانب التي أثرت فيها الحرب على سلوك قيادة الاحتلال، إذ إن المستوى السياسي لم يعد يتعامل مع غزة باستخفاف كما السابق، أو اعتبارها ورقة لتحقيق مكاسب انتخابية دون دفع ثمن باهظ.
وأضاف مرداوي أن قيادة الاحتلال أصبحت على قناعة أن الحرب لا يمكن خوضها بدون تحقيق عوامل القوة وكسب الرأي العام، وقد توصلت لقناعة استحالة خوض حرب سريعة وخاطفة مع القطاع. وأشار إلى وجود قناعة لدى الاحتلال بقصور الجانب الاستخباري لديه فيما يتعلق بالمقاومة وقدراتها التي تعتمد على تطويرها ذاتيًا، الأمر الذي يؤكد دومًا فرضية حضور المفاجآت في أي معركة قادمة.
وعلى ضوء ما سبق، أصبحت قيادة الكيان السياسية على قناعة بضرورة تقديم خيار لغة الحوار كإحدى الخيارات في التعامل مع غزة، خاصة في ظل تأييد بعض المسؤولين ذات البعد الأمني والسياسي إقامة ميناء بحري في غزة، من بينهم وزراء في حكومة نتنياهو، وهو مؤشر على رغبة إسرائيل في تفادي العنف العسكري المباشر وما ينجم عنه من خسائر على الكيان.
وعقب إصدار مراقب الدولة تقريره الذي أدان فيه سلوك جيش الاحتلال وأداءه خلال فترة العدوان، أجبرت إسرائيل على استحضار البعد السياسي في تحديد معالم الرؤية الإستراتيجية في العلاقة مع غزة. وللمرة الأولى تضطر إسرائيل بعد العدوان للتسليم بوجود حماس واستحالة القضاء عليها، وضرورة التعامل معها على أرض الواقع كونها المسيطرة على غزة، "مع ضرورة البحث عن حلول عملية تتفادى من خلالها إسرائيل الحرب مجددًا، لعدم وجود رغبة أصلا لدى الكيان بخوض حرب كل عامين وهي مسألة مكلفة تبحث إسرائيل عن حلها سياسيا، بحسب مختص بالشأن الإسرائيلي عادل عواودة.
ورغم امتعاض المستوى العسكري لسلوك السياسي في تعامله مع غزة، إلا أن تقاطع الأهداف في تجنب معركة جديدة ولو في فترة مرحلية بسيطة، تدفع قيادة الأركان إلى الاستجابة لمواقف مكتب رئيس وزراء العدو، كما يقول عواودة.
ويؤكد عوداودة وجود تفاهم تكتيكي بين أوساط السياسة والأركان والأمن في التعامل مع القطاع ضمن منظومة تستوعب طبيعة الأوضاع هناك. وطبقًا لما سربته أوساط إعلامية وسياسية إسرائيلية، فإن قيادة الكيان فضلت ربط تواصل سياسي مباشر بينها وبين مصر، لرسم خارطة التعامل مع غزة.
ولعل الاتفاق التركي الإسرائيلي شاهد عملي على رغبة إسرائيل في احتواء الأوضاع بغزة، لكن بعيدًا عن التواصل المباشر مع حركة حماس، في ظل ما رشح من أنباء ومعلومات عن مشروعات ستنجز قريبًا في غزة تنتهي من خلالها أزمتا الكهرباء والمياه.
ومع وجود الرغبة الاسرائيلية لتقديم خيار المفاوضات، إلا أنه يبقى مقيدًا ومناطًا بظروف سياسية إسرائيلية بحتة، خاصة فيما يتعلق بقضية ملف تبادل الأسرى، التي على ما يبدو أنها لم تنضج بعد في ظل عدم توفر بيئة سياسية خصبة داخل اتئلاف الكيان في الوقت الراهن، كما يجمع المختصان.