لم تكتمل معالم الفرحة عند طفلة تذوقت مرارة اليتم منذ صغرها، وتنقلت بين محطات حياتها وحيدة في فرحتها لا يقف معها أحد، بعدما فقدت والدها شهيدًا، ومن ثم والدتها التي توفيت بمرض السرطان.
قبل عشرة أعوام ارتمت في حضن والدها تلاعب لحيته الطويلة، وهو يحتفي بنجاحها وتفوقها في مدرستها، متمنيًا لها دوام التقدم والنجاح في حياتها لتصبح شيئًا جميلا يعتز ويفتخر بها.
وبعد دقائق معدودة اقتحمت قوات أمن السلطة منزله بدون سابق انذار، لتطرحها ارضًا وترمي بها بعيدًا عن والدها الذي اقتادته الى مراكز التحقيق دون أن تسمح له بأن يطبع قبلة الوداع على رأس طفلته المدللة أو حتى أن يكمل لها الوصية.
وبعد يومين فقط عادت مآذن المدينة لتنعيه كأبرز قادة ووجهاء مدينة رام الله الشهيد مجد البرغوثي الذي قتل بفعل التعذيب الشديد الذي تعرض له على يد أجهزة امن السلطة عام 2008م، ثم عاد لمنزله للمرة الأخيرة لتطبع طفلته قبلتها هي على جبينه وتعاهده على مواصلة الطريق.
كبرت الفتاة يومًا بعد يوم، ترافقها ذكريات والدها بصحبة المؤنسة لها في مسيرة سنواتها الاخيرة وهي والدتها، إلّا أن مرض السرطان دهم جسمها.
تستذكر بشرى لحظات الصدمة الثانية التي تعرضت لها في حياتها بعد وفاة والدها، فتقول "كنت أشاهد أمي وهي تصارع الألم والوجع، وأنا لا املك أن أفعل شيئًا يخفف من مصابها".
ومع اشتداد ألم والدتها وهي في الرمق الاخير من حياتها، أوصت الأم ابنتها بأن تكمل مسيرة نجاحها وأن تحصد على معدلات مرتفعة تساعدها على دخول مجال الطب، لعلها تتمكن من معالجة مرضى السرطان والبحث لهم عن دواء يخفف عنهم.
وما هي الا لحظات غادرت فيها الأم ابنتها واطفالها الخمسة، ليكابدوا مرارة اليتم والحزن، فيما أكملت الطفلة الصغيرة مسيرتها التعليمية حريصة أن تحصد المعدلات المرتفعة كما تمنى والديها لها.
ومع دخولها مرحلة الثانوية العامة، تفجرت براكين الألم والمعاناة في قلب الطفلة اليتيمة لتنهي كل ليلة من ليالي الدراسة بنوبة من الدموع والبكاء، تستعين بها لتهدئة نيران الشوق التي تشتعل في قلبها حتى تخلد في النوم، وهكذا يتكرر المشهد.
وتروي بشرى بعض محطات دراستها، " كنت اذهب إلى سرير والدتي أفرغ طاقتي بالبكاء على وسادتها، وأعدها في كل ليلة سأحصد على معدل مرتفع كما وعدتها".
وكان أخوتها يرقبون دمعاتها بصمت من بعيد، يذكرونها في كل مرة بوصية والديها لهم أن يكونوا في مقدمة الناجحين.
ومع لحظات اعلان الثانوية العامة، بقيت بشرى وأخوتها في صمت مريب طيلة ليلة سبقت موعد الاعلان، إذ تصف هذه اللحظات "نوبات من الدموع والقلق وكأن على رؤوسنا الطير".
حتى إذا ما شق فجر الاثنين جاءتها رسالة عبر جوالها تبشرها بمعدل 90%، لترتمي سريعًا على سرير والدتها وتعانق وسادتها، في لحظات ساد فيها الحزن واختلطت فيها المشاعر بين فرحة النجاح ومرارة القهر على فراق والديها.
وتحول البيت سريعًا إلى مأتم من الذكريات، أسدل الستار عليه عائلة البرغوثي ممن جاؤوا سريعًا إلى المنزل مهنئين راسمين مشاهد الفرحة فيه.
وتقول بشرى "حرمت شيئًا يتمناه أبسط انسان على وجه الارض، أن أعانق والدي وأشاركهم فرحتي، أن أرى معالم السعادة على وجوههم، أن يقبلني والدي كما كانا يفعلان في كل عام اثناء صغري"، لكنها أمنيات تبددت في خاطر الصغيرة التي كبرت سريعًا قبل أوانها.
واجتمعت العائلة برفقة صورة والديهم يحدثونهم عن مشهد جديد من مشاهد الفوز والانتصار في معركة الوجود التي قدر لها أن يخوضوها باستبسال وقوة تعبر عن أصالة شعب يرزح تحت نير الاحتلال وظلم اجهزة امنية فلسطينية تورطت في قتل والدها.
ورغم مرور سحابة الحزن على منزلهم، إلّا أن صفاء المستقبل يرقب بشرى التي تحلم أن تنفذ وصية والدتها وأن تتخصص في مجال الطب في جامعة بير زيت إذا ما تسنى لها ذلك.
ومع نجاح بشرى تضاف قصة تحد فلسطينية جديدة إلى لوحة فسيفسائية تعبر عن ارادة وتحدي مختومة ببصمة الفلسطيني.