قائد الطوفان قائد الطوفان

ترويه المقدسية "الحلواني"

"الرسالة" تقضي يومًا من الإبعاد عن الأقصى

غزة-أمل حبيب

على قارعة الطريق تجلس بالمقعد الأمامي لسيارتها، بعد أن وصل حد القهر لحرمان قدميها من ملامسة عتبات البلدة القديمة أو حتى الوقوف أمام باب السلسلة الأحب لقلبها.

زجاج سيارتها يعكس لها بريق القبة الذهبية، بينما تراقب هرولة المصلين نحو باحاته عبر النافذة اليمنى دون أن تتمكن من مسابقتهم كما كانت قبل عام!

تغبطهم تارة وتبكي تارة أخرى .. إلا أنها لا تنسى أن تطبع قبلة على جبين ابنتها الكبرى آلاء وأخرى لمحمود وأحمد، وتهمس في أذن الصغير حمزة:" ما تنسى تعبي قزازة هوا من الأقصى ..ترد روحي فيها ".

هي تفاصيل دقيقة عايشتها "الرسالة" بصحبة المقدسية هنادي الحلواني بعد عام من إبعادها عن المسجد الأقصى ورفيقاتها بالقائمة الذهبية التي وصل عددهم إلى 50 , حيث تضعهم سلطات الاحتلال الإسرائيلي ضمن ما يسمى بــ" القائمة السوداء". 

هنادي التي ارتوت من ماء الأقصى منذ صغرها كان طلبها خلال زيارة أبنائها للمسجد في كل مرة منذ قرار إبعادها:" ما تنسوا تجيبولي المي من الأقصى ".

زوجها أبو محمود يدرك حرقتها وقهرها لحرمانها من التوجه معهم للصلاة لاسيما خلال شهر رمضان وعيد الفطر.

حين يعود زوجها يخبرها بنص الدعاء الذي يلهج به حين يبصر الأقصى، لتبتهج وترتسم ابتسامتها حين يسمعه يردد:" الله ينتقم من اللي حرم هنادي من الأقصى .. ألا لعنة الله على الظالمين ".

تصلنا قوة هنادي وعزيمتها عبر صوتها وهي تقول:" أرسل معهم دعواتي وسلامي لطلبتي في جلسات تحفيظ القرآن ".

يزداد أنسها ببهجة عائلتها حين تعود من الأقصى لإخبارها بأنهم كانوا على العهد والوعد بعد أن أكملوا ما بدأت به خلال مصاطب العلم وجلسات تحفيظ القرآن الكريم.

توصيهم هنادي بمتابعة حلقات التحفيظ التي كانت تشرف عليها قبل قرار الإبعاد، في حين تبعث التهاني لطالباتها في كل مرحلة يحصلن فيها على أعلى الدرجات، ولاسيما إن كان بإتمام حفظ كتاب الله.

هنادي معلمة القرآن الكريم والتي اعتدنا أن نراها في الصفوف الأولى لتصدي اقتحامات المستوطنين وهي ترفع القرآن الكريم في وجه المجندات الإسرائيليات تارة , وتارة أخرى وهي تصدح بـ "باب الأقصى من حديد"، لم تبعد عن الصلاة بالأقصى فحسب, بل وصل المنع من الوقوف أمام أبوابه بعد مواظبتها والمرابطات على الاعتصام أمام بوابات ومداخل الأقصى، ووصل القرار الى منعها من دخول البلدة القديمة بالقدس كذلك! 

العاشر من أغسطس الحالي من العام الماضي لم تفارق هنادي الملقبة بـ "درة الأقصى" غصة القلب بعد الحكم بالإبعاد عليها والعشرات من مرابطات الأقصى وعلى رأسهن خديجة خويص، واللواتي ساهمن بدرجة كبيرة في تصدي اقتحامات المستوطنين إبان انتفاضة القدس، مرورًا بالتنكيل بهن من خلال الاعتقال والعزل والإبعاد وقطع الخدمات الصحية عنهن وعن عوائلهن. 

بعد حالة صمت وأخرى تقول هنادي لمراسلة "الرسالة":" لك أن تتخيلي أني أرى الأقصى من نافذة سيارتي وأنا أحدثك الآن (...) لك أن تتخيلي أني محرومة من هذا الجمال لعام كامل محرومة من جنة الله على الأرض".

تنظر من بعيد ويلهج لسانها بالدعاء, وبعد ذلك تتلو سورة الإسراء التي اعتادت المداومة عليها لاسيما بعد إبعادها, وفق حديثها عن يومها بعيدًا عن الأقصى.

ولسجدة في رحابه تعادل الدنيا وما فيها لـ "درة الأقصى" التي ما فتئت تراقب ابتسامة وسكينة المارين الى أن شاركناها لحظات القهر والحرمان، وقد حاولنا أن نخفف عنها باستحضار حرمان أهالي غزة من إبصار القدس ولو لمرة واحدة قبل الرحيل!

لم تستوعب هنادي حتى الآن حرمانها من عبق أزقة البلدة القديمة التي يسكن العيد بين حناياها، تقول:" حرمت كذلك من المشي في الحارة القديمة .. كيف لهم منعي من شوارعها والعيد هناك .. كيف للعيد أن يأتي دون أن نفرح وصغاري ؟" .

لم يقتصر إبعادها عن الأقصى لمدة عام، بل حرمت من صلاة العيد فيه لثلاث سنوات متتالية، وتعود بذاكرتها إلى عيد الفطر وهي تجهز أبناءها للصلاة، ولحظات رؤيتهم يعبرون حواجز شرطة المحتل وتبقى وحيدة بانتظارهم، وتقول:" أعيد خلفهم تكبيرات العيد وأبقى بانتظارهم حتى يعودوا لي بعطر الأقصى والعيد".

وقع خطى المصلين يزداد وشوقها حين يردد المؤذن "الله أكبر"، لا يمكن لذاكرتها أن تنسى ساعات الصباح الأولى لها قبالة باب المغاربة وأشعة الشمس تزيد القبة الذهبية بريقًا.

"هنادي" زيتونة مقدسية مثمرة، تستمد قوتها من صلابة الأرض، في حين يبقى حنينها لباب السلسلة الأحب لقلبها كما أخبرتنا، لأنه أول مكان اتخذته للرباط ورفيقاتها المبعدات حيث سرعان ما سمي بـ "قلعة المبعدات".

"لن يستطيعوا أن يخلعوا الأقصى من بين الضلوع ..فأرواحنا هناك ترعبهم " حاولت هنادي مرارًا التأكيد على مبدأ التواجد رغم الإبعاد من خلال يوم كامل عايشته "الرسالة" على عتبات القدس!

البث المباشر