بقلم/ رشا فرحات
بيدها الحنونة المليئة بالتفاصيل، وبتلك العروق المتينة امتدت وجلة لتفتح باب غرفة فاطمة، ابنتها الصغرى التي تزوجت مساء هذا اليوم، وأصبحت غرفتها فارغة دون صاحب، تأملت تضاريس تلك الغرفة المتألمة لفراق صاحبتها، وبدأت تبث شجونها إليها، أتراها متألمة بحجم ذلك الألم الذي يغمر قلب هذه العجوز، فاطمة هي آخر العنقود، ولم تكن تعمل حساباً لفراقهاً أبداً، ولكن لماذا؟!! لقد بلغت اثنان وعشرون عاماً، وتخرجت من جامعتها، فماذا تنتظر، وما أكثر ما تتمناه الأم لابنتها سوى زوج طيب، مثل زوج فاطمة. أغلقت الباب وبدأت تقرأ تراتيل من الأدعية التي ما فتأت ترددها لكل واحد من أبناءها كل يوم، وقبل أن تخلد إلى نومها، والتي تعودت ترتيلها كلما أزف الرحيل بأحدهم وحان موعد فراقه.
متثاقلة يقطّع قدميها ذلك الألم الذي لم يفارقها منذ خمس سنوات، تنظر إلى ساعتها، الوقت متأخر والجفون تأبى أن تنام، وإحساس بالضيق يغمرها، وهي تحاول أن تكذب مشاعر الوحدة والخوف التي تسمع صوتها تصفر في أركان هذا البيت الكبير الموحش. مشت بطيئة إلى شرفتها لعل هواءها العليل يعطيها شيئا من السكينة فترتاح نفسها المحملة بالأثقال، ودموع فراق فاطمة تأبى أن تسقط فتهدئ من محامل هذه الأثقال قليلاً.
كثيرةٌ هي أبواب الذكريات في هذا البيت الفسيح، والتي أغلقتها على دموعها التي لم يكن يراها احد، وعلى أصوات أدعية سرية غالباً ما ترتلها ليلاً أثناء اختلائها بأشواقها، تتمنى لهم بأن يوفقهم الله في هذا البعد، أينما ذهبوا..نظرت إلى ذكرياتها التي يفجرها كل يوم تحديقها المتواصل إلى تلك الأبواب ..
باب أحمد في أخر الرواق، مغلقاً منذ قرر السفر للإقامة في أمريكا، لا تقدر على فتحه خوفاً من أن تفتح معه أشواقها الدفينة الخامدة منذ سنوات، فتخرج أصوات ضحكاته المحبوسة في تلك الغرفة، وتتفتح معها جراحها القديمة، لقد أصبح احمد أباً لثلاثة أطفال لا يعرفونها ولا تعرفهم، ولكنه وعدها بأن يأتي لزيارتها في العام القادم، حتى تتعرف إليهم، وهي تشعر انه سيفي بوعده لها هذه المرة. وذلك الباب الذي بجانبه، باب سعاد ابنتها البكر، والتي تعيش مع زوجها في الخليج، ولا تريد أن تأتي إلى غزة خوفاً من إغلاق الطرق، فتتأثر مصالحها ومصالح أبناءها السبعة، بالأمس هاتفتها ووصفت لها حجم وحدتها، ولم تستطع أن تصف لها حجم الألم الذي يثقل قدميها في الآونة الأخيرة، وصحتها التي باتت في تدهور مستمر، وتصبر نفسها بأعذار كثيرة فهي لا تريد أن توجعها بهمومها فتتأثر حياتها، وسعاد متاعبها كثيرة ومسؤوليات أبناءها لا تعطيها فرصة لسؤال أمها عن صحتها. تعاود النظر إلى نافذتها، فتزيد عتمة الشارع وخلوه من وحدتها، فتقطعها بأدعيتها التي أصبحت أغنية تتردد على لسانها "الله يسهل عليكي يا فاطمة، وأعانك الله يا سعاد، ورافقك الله يا أحمد أينما ذهبت، ورزقك من نعمه برزق عيالك"
تضحكها أصوات الذكريات وقد باتت شيئاً وحيداً يدخل الفرحة إلى قلبها، ويعيد أرواحهم البعيدة إلى أماكنها، فتفتح الأبواب وتزهر الدار بألوانهم، فتشتم أنفاسها هواءً نقياً.. بالأمس فقط رأتهم يصرخون ويتدافعون إلى أحضانها كي تضمهم، ويتسابقون لإعطائها قبلة الصباح، وبالأمس أيضاً صنعت لهم تلك الحلوى التي لم تصنعها منذ عشر سنوات، وبالأمس أيضاً اشترت لهم ملابس العيد، وبالأمس أيضاً تشاجروا على اختيار وجبة الغداء، وبالأمس تناكف احمد وأختيه لأنهما تآمرتا عليه وآخذتا كُرته بدون أذنه..وبالأمس نجحوا في المدرسة، وبالأمس تخرجوا من الجامعة، وبالأمس القريب أيضاً ذهبوا جميعا إلى مصالحهم دون رجعة.. ليتركوها وقد اخذوا معهم كل شيء..
تعود لتسأل نفسها ذات السؤال الذي تسأله كل ليلة..يا ترى يعلمون كم هو الثمن الذي تدفعه الأم لأبنائها، هل لزاماً عليهم أن يفارقوا أبناءهم ليشعروا بذات الشعور الذي يعتريها اليوم؟!! ثم تضحك، وتعود فترتل" اللهم لا تبعدهم عن أبناءهم يا رب" وتبتسم، ثم تسأل نفسها سؤالها الآخر، أترى متى تغلق أبواب الذكريات أيضاً فيضيع معها الأمل الذي تحيى به، وهل ستطول حياتها هكذا على أمل..أمل اللقاء..أمل سماع صوتهم..أمل ..أمل .. وهل ستسّلم أمانتها قبل أن يتحقق الأمل ؟!!!
أبوابهم أُغلقت.. لكن باب الدار ما زال مشرعاً ينتظر أولئك الأحباب...لعل الأشواق تثور فتحركهم يوماً..ليعودوا إليها..
انزلقت الدموع من عينيها، وصورهم الجميلة تتعاقب أمامها، وأصوات تراتيل ادعيتها تعلو وتعلو في الفضاء، زحفت بقدميها الموجوعة إلى بابها بعد أن ضاق ذرعاً من انتظار الطارقين...ثم أغلقته مثلما تفعل كل ليلة على ذكرياتها .. المبكية.. المخيفة .. وعلى ذلك الأمل الوحيد الباقي..