أوردت صحيفة غارديان أن باحثين كشفوا في دراسة جديدة مدهشة عن وجود علاقات قوية بين أصوات الكلمات والمعاني (الصور الذهنية) التي تدل عليها في آلاف اللغات التي لا علاقة قرابة بينها، ويُرمز للكلمات بـ"الدال" وللمعاني بـ"المدلول"، وكمثال كلمة شجرة هي "الدال" أما شكل الشجرة في أذهاننا فهو "المدلول".
وأشارت الدراسة إلى أن الباحثين نشروا مؤخرا تحليلا مذهلا لكلمات عادية مستخدمة في 4298 لغة (تساوي 62% من جملة اللغات التي يتحدثها البشر حاليا).
وكان هدف الباحثين هو معرفة ما إذا كانت هناك ارتباطات بين أصوات بعينها ومعان لا يمكن إرجاعها إلى حقيقة أن الدوال تُعطى للمدلولات بشكل اعتباطي وليس لعلاقة طبيعية بينهما.
وقد عثر الباحثون على ارتباطات قوية بين الأصوات والمعاني، فعلى سبيل المثال وجدوا أن الكلمات الدالة على "صغير" تحتوي في الغالب على حروف علة تصدر من التجويف العلوي للفم، كمثال:EE في SEE أو PEAK والكلمات التي تدل على "دائري" "CIRCLE" أو "أحمر" "RED" ترتبط بأصوات حرف "الراء" "R"، والكلمات الدالة على "ممتلئ" "FULL" ترتبط بأصوات الحرف الثابت "ب" "P" أو "B".
كما عثروا على ارتباطات بأعضاء الجسد، مثلا: يرتبط "أنف" "NOSE" بحرف "النون" "N"، وقال تقرير الصحيفة إن هذه الارتباطات قد وُجدت في لغات متباعدة عن بعضها، مثل الإنجليزية والتاغالوغ واليوروبا والصينية.
وتساءلت الصحيفة عما يعنيه هذا؟ وأوضحت أن أول الدروس التي يتلقاها طلاب اللسانيات هو أن العلاقة بين الدال (الصوت) والمدلول (المعنى) هي علاقة عشوائية تخضع للصدف "اعتباطية". فنحن نستخدم كلمة "شجرة" لندل على نبات له جذع وأوراق، لكن ليس هناك ما يشبه الشجرة في مجموع الحروف "ش، ج، ر، ة"، وإذا صدر قانون ينص على أن نطلق على الشجرة "فراف" بدلا من شجرة فإن الكلمة الجديدة ستصبح عادية بالتدريج وبمرور الزمن.
ويستمر علم اللسانيات الراسخ ليقول لطلابه إن هذا جزء مما يعطي اللغة البشرية قوتها الإنتاجية الكبيرة، أي توليدها لكلمات جديدة، فمن الممكن ابتكار كلمات جديدة لا يوجد ما يستوجب ربطها بأي حال من الأحوال بالمفهوم الذي تمثله، فالتوافق الذي يربط في أدمغة الناس ذلك الصوت بالمفهوم أمر كاف.
وهناك بعض الاستثناءات، فالكلمات التي تدل أصواتها على معانيها مثل ""يسحق" "SMASH"، و"رنين" "JUDDER" لها صفات مادية تماثل إلى حد ما الشيء الذي تصفه، لكن فكرة أن هذه "الرمزية الصوتية" تشمل أكثر من الكلمات القليلة المعروفة قد رفضها معظم علماء اللسانيات.
أما الباحث داميان بلاسي وزملاؤه فقد ركزوا على ثلاثين مفهوما أساسيا لا يوجد بينها ما يمثل أصواتا عالية أو متميزة من تلك التي تشكل أرضا خصبة للكلمات التي يشبه صوتها معناها، وتأتي هذه المفاهيم من قائمة "سواديش" الشهيرة التي تشتمل على مئة كلمة، وتضم "يعض"، "يشرب"، "أُذن"، "ورقة"، "نحن"، "سِن"، "جِلد"، "واحد"، و"حجر".
واكتشف العلماء بشكل لا يُصدق مجموعات الأصوات التي يبدو أن الكلمات المذكورة "تتفاداها"، تلك الأصوات التي ستظهر أقل بكثير مما تتوقع إذا كان الأمر يتعلق بالمصادفة.
وقد بُنيت هذه الدراسة على ما سبقها من الأبحاث التي ألمحت إلى وجود علاقات غير عشوائية بين الصوت والمعنى، وعلى سبيل المثال ظل الناس قادرين على المزاوجة بنجاح بين الكلمات التي لها معاني معاكسة في لغات لا يعرفون شيئا عنها.
وهنا يبرز السؤال: لماذا؟ ففي القرن التاسع عشر جعل مؤسس علم اللسانيات الحديثة فيردناند دي سوسور الاعتساف أو العشوائية بندا رئيسيا في نظريته للغة، وقد ظلت تبصراته قوية حتى وقت قريب، لكن وبتطور العلم يبدو أنها ستصبح مفارِقة أكثر للواقع الذي تُستخدم فيه اللغة وللعقول التي تستخدمها.
وتوّج هذا التيار بأفكار عن "نموذج لغة" مشفّر جينيا في الدماغ البشري يمتلك مجموعة قواعد خاصة باللغة تحدد ليس بنية لغة بعينها، بل جميع اللغات، وهذا ما يقول به ستيفن بينكر ونعوم تشومسكي، أما بلاسي وزملاؤه فيقولون إن التفسير يجب أن يوجد في "العوامل المشتركة بين أنواعنا" الأمر الذي يترك الأشياء مفتوحة.
ويشير بلاسي وزملاؤه إلى الترابط بين "أنف" مع أصواتها الأنفية، ولسان مع أصوات "آي" ليقولوا إن الترابط بين أعضاء الجسم والأصوات التي تصدرها قد لوحظ من قبل، فـ"الثديان" يرتبطان بحرف "أم، الميم" وربما يعود هذا إلى تكوين فم الأطفال الرضع أو إلى الأصوات التي يصدرونها.
إن قدرة البشر على ربط المثير "المحفز" بكيفيات مختلفة أو بكلمات أخرى هي قدرة على ترجمة الشعور بورقة نبات أو حجر أو نجمة في شكل صوت، هذا بالضبط ما يفعله الشعراء، وبالتالي يمكننا القول إن كثيرا من الشعر منسوج في اللغة العادية أكثر مما كنا نعلم.
الجزيرة نت