عرضت فضائية بي بي سي قبل أيام مقابلة حول المناهج الفلسطينية الجديدة استضافت فيها أحد الإخوة من وزارة التربية والتعليم العالي في رام الله وأوفير جندلمان المتحدث باسم رئيس وزراء الحكومة الإسرائيلية. وقد جاءت هذه المقابلة في إطار حديث عن مهاجمة إسرائيل للمناهج الفلسطينية الجديدة وتقديمها شكوى للأمم المتحدة متهمة المناهج الفلسطينية الجديدة بالتحريض.
ورغم كل ما يمكن أن يقال عن المناهج الإسرائيلية ودورها التحريضي الذي يعزز كراهية الإسرائيلي للعرب والمسلمين، بل يحث على قتلهم واقتلاعهم من فلسطين، إلا أن جندلمان ورغم أنه لم يقدم دليلاً واحداً على صحة إدعاءاته بما يخص المناهج الجديدة ودورها التحريضي، فقد دفعنا إلى موقف المدافع عن مناهجنا المعتدلة بدلاً من استغلال الموقف لفضح المناهج الإسرائيلية وحشر جندلمان في الزاوية من خلال تقديم الشواهد والأدلة الحقيقية المستندة إلى الواقع الحقيقي ونتائج الدراسات والأبحاث العديدة التي قام بها باحثون عرب ويهود وكشفت بكل جلاء ووضوح سوءة المناهج الإسرائيلية وعدوانيتها وعنصريتها.
فالكتابات الصهيونية تزخر بما يغذي فكر العنصرية والعدوانية، يقول موسى هس وهو من مؤسسي الصهيونية: "نفوس البشر آتية من روح نجسة، أما نفوس اليهود فمصدرها روح الله المقدسة"، ويقول أيضاً: "الشعب اليهودي جدير بحياة الخلود، أما الشعوب الأخرى فهي أشبه بالحمير". كما أن العقيدة اليهودية مليئة بالنصوص التي تربي في اليهود مقولة " شعب الله المختار"، الأمر الذي يدفعهم للعنصرية والعدوانية تجاه الأجناس الأخرى.
أما الفلسفة التي بنيت عليها المناهج الدراسية الإسرائيلية فإنها تتضمن أن التوراة والتلمود هما المصدران الأساسيان للتاريخ والجغرافيا والأدب القومي، وهي المحتوى الأساسي للتقاليد الروحانية والأخلاقية، وقد استغلت الصهيونية النصوص التوراتية وفسرتها بما يتناسب مع طموحاتها فملأت الكتب الدراسية بها، وصاغت التاريخ اليهودي صياغة جديدة وبثت فيه فكرة القومية اليهودية وأحقية اليهود في أرض فلسطين.
وقد قام العديد من الباحثين بتحليل الكتب الدراسية الإسرائيلية وكتب أدب الأطفال لمعرفة صورة العربي والمسلم والفلسطيني في هذه الكتب، ومدى التحريض وحجم المغالطات الذي تتضمنه هذه الكتب، وقد أظهرت نتائج تحليل محتوى هذه الكتب تطرف المناهج الإسرائيلية وتحريفها للتاريخ والحقائق. وقد تمثلت عنصرية هذه المناهج في مهاجمة الديانات السماوية غير اليهودية، وتعزيز الوعي الديني لدى الطلاب بملكية اليهود للأرض، وإظهار تأثر الإسلام باليهودية والتشكيك في الوحي المتنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والتأكيد على أن الإسلام سبب التأخر والرجعية. أما من الناحية التاريخية فقد ركزت المناهج الإسرائيلية على إثبات الحق اليهودي في فلسطين مقابل تغييب الوجود العربي والإسلامي فيها، وتصوير الفتوحات الإسلامية بأنها احتلال، إلى جانب طمس الأسماء العربية للأماكن والآثار واستبدالها بأسماء عبرية.
أما في المجال النفسي فقد تمثل ذلك في تعزيز الكراهية للعرب واحتقارهم وتعبئة مشاعر الحقد والعداء والتحريض ضدهم، والتأكيد على دونية العرب وعبوديتهم وإظهارهم بمظهر الرافضين للتطور والحضارة مقابل تعزيز الفوقية والاستعلاء اليهودي وإبراز تقدمهم على غيرهم مع بث الفكر التوسعي لإسرائيل.
وقد تعمدت المناهج الإسرائيلية تقديم الإنسان العربي على أنه مخلوق مشوه بصور منفرة ليكون في عيون النشء الجديد مثيراً للكراهية والاحتقار والاشمئزاز، فنجد هذه المناهج تصف العرب بالتخلف والوحشية والهمجية مما يدعم السلوك العدواني تجاه العرب وتسهيل ارتكاب الجرائم ضدهم. وفي شهادة لأحد خريجي المدارس الإسرائيلية يقول "منوحن" ضمن شهادته: "علمونا أن نكره العرب وأن نحتقرهم، وعلمونا فوق ذلك كله أن نطردهم من أرضنا" (باعتبار فلسطين أرضهم).
وتقول الباحثة حاجيت غورزئيف: "إن معاني الديمقراطية تغيب عن برامج التعليم اليهودي بسبب التأكيد على تطبيق قاعدة "نحن وهم الأغيار، وهم دائماً الأشرار". والتعليم اليهودي يغذي الأجيال بالعنف وكراهية الآخر المتمثل في الفلسطيني والعربي المحيط بالكيان المحتل. ويربط التعليم اليهودي القتل للآخر بالنصوص الدينية والأمثلة التاريخية وفتاوى الحاخامات حتى تحوَّل القتل إلى عبادة، وفي دراسة للباحث أدير كوهين بعنوان: "وجه قبيح في المرآة" حلل فيها محتوى مئات من كتب الأطفال في إسرائيل فوجد أن غالبيتها تتضمن إشارات سيئة للعرب وتحث على القتل.
أما دراسة دان ياهف بعنوان "ما أروع هذه الحرب" التي تناولت مئات النصوص الأدبية الإسرائيلية فقد أظهرت نتائجها أن هذه النصوص تنمي روح العسكرة العنيفة في وعي الإسرائيلي وتعزز لديه التعصب القومي.
ومن مظاهر عسكرة التعليم عقد رحلات طلابية إلى قواعد الجيش الإسرائيلي وأخذ صور تذكارية معهم، والاعتزاز بألوية الجيش وتقديم الهدايا للجنود، وقد رأينا كيف يكتب طلاب المدارس العبارات والرسائل والتوقيعات على قذائف المدفعية التي استخدمها الجنود في حربهم على غزة ولبنان. ومن ذلك أيضاً احتفال المدارس بعيد الاستقلال من خلال تسلق الأطفال للدبابات وتزيينها بأعلام وحدات الجيش الإسرائيلي.
ومن مظاهر عسكرة التعليم في إسرائيل أيضاً تولي كبار ضباط الجيش في الاحتياط مناصب إدارية هامة في جهاز التعليم وإدارة المؤسسات التربوية حيث تقوم وزارة التعليم بتأهيل الضباط المتقاعدين من الجيش والمخابرات للانخراط في التعليم، كما يتم تعزيز عسكرة التعليم من خلال جعل بعض الشخصيات العسكرية موضوع دروس للطلاب تقديراً للعسكرة وغرس مفاهيمها في أذهان النشء. هذا يتم في التعليم الرسمي العلماني فما بالكم بالتعليم الديني الذي يكون فيه التطرف والصورة أكثر سوداوية ومأساوية، وفتاوى الحاخامات تحث على اقتلاع كل ما هو عربي، وفتواهم مقدمة على أي تعليمات أخرى.
أما بالنسبة للقدس فقد بدت في المناهج الإسرائيلية مدينة يهودية خالصة وعاصمة لدولة إسرائيل، وتتنكر هذه المناهج للوجود التاريخي العربي والإسلامي في القدس، وتدعي أن سائر دور العبادة الإسلامية والمسيحية أقيمت على أنقاض معابد يهودية، فصورت فتح عمر بن الخطاب لبيت المقدس احتلالاً، وأن الحرم القدسي قد بني على أنقاض الهيكل، ووصفت هذه المناهج العرب أهالي مدينة القدس بالمجرمين والمحتلين الغرباء.
وعلى نقيض ما يزعمه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وبعكس ما تدعيه حكومته والإعلام العبري الأمني من أكاذيب وخدع للرأي العام العالمي، تأتي المناهج الحكومية لجهاز التعليم الديني الرسمي الإسرائيلي لتفند ما يروجه نتنياهو من أكاذيب حول التزام إسرائيل بالحفاظ على الوضع القائم للمسجد الأقصى وعدم نية إسرائيل تدميره وإقامة ما يزعمونه "الهيكل" مكانه، وهو ما تظهره بشكل لا يقبل التأويل كراس اليوميات الذي تم توزيعه على تلاميذ المدارس الإسرائيلية بداية العام الدراسي الماضي والذي يصور "الهيكل المزعوم" مكان الأقصى ويحمل عنوان "شهادتي الاجتماعية – حب البلاد وبناء الهيكل". وقد أشارت صحيفة هآرتس الإسرائيلية إلى أحد نصوص هذا الكراس في فصل يحمل عنوان "إرشاد توراتي" يظهر جواز ممارسة أي فعل من أجل إقامة "الهيكل المزعوم".
إن ما كشفت عنه وسائل الإعلام العبرية مؤخراً بشأن مخطط إقامة "الهيكل" مكان الأقصى هو تحريض رسمي ومبرمج يطالب كل تلميذ إسرائيلي بالتعهد والعمل على بناء الهيكل المزعوم، باعتبار ذلك إحدى المهام الملقاة ليس على عاتق حكومة الاحتلال فحسب، بل تقع مسؤوليته على كل إسرائيلي ويهودي كـ "فريضة" دينية وقومية.
وفي ضوء ما تقدمه المناهج الإسرائيلية للنشء الجديد فإنه يتوجب علينا ونحن تحت الاحتلال الإسرائيلي أن نضمن مناهجنا ما يتصدى للاتجاه العنصري الموجود في المناهج الإسرائيلية من عنف وكراهية وتحريض، وإظهار الصورة الحقيقية لإسرائيل كعدو ومحتل لأرضنا، وأن نعزز لدى أبنائنا روح الفداء والتضحية من أجل تحرير الأوطان بكل السبل التي يتيحها لنا القانون الدولي وتضمنها لنا المواثيق الدولية.
أما مؤشر الوطنية في المناهج الفلسطينية الجديدة فهو يحتاج إلى فحص وتدقيق بشكل مهني وموضوعي، ويجب ألا تأخذنا هذه الضجة الإعلامية بعيداً عن التقييم الحقيقي لهذه المناهج، وهنا نعطي مثالاً للمقارنة من واقع كتب اللغة العربية، مؤكداً لزوم إجراء دراسة تحليلية للكتب الجديدة. ففي كتاب لغتنا الجميلة للصف الرابع نجد أن الكتاب القديم تضمن درساً عن البطل صلاح الدين الأيوبي وانتصاره في موقعة حطين على أرض فلسطين وفتحه لبيت المقدس وتهيئة المسجد الأقصى وقبة الصخرة للصلاة (وهو موقف عزة وشموخ وانتصار)، بينما في المقابل جاء في الكتاب الجديد درس عن النكبة بعنوان "دمية حسنة" تتحدث فيه الجدة لأحفادها عن يافا وهجرتهم منها بعد هجوم العصابات الصهيونية (وهو موقف فيه الخوف والذل والتهجير والغربة رغم تذكيره بالوطن والأرض)، أما كتاب لغتنا الجميلة للصف الثالث فنجد أن الكتاب القديم قد تضمن درساً عن خالد بن الوليد وبطولاته وانتصاره على الروم في موقعة مؤتة (وهو أيضاً موقف عزة وشموخ وشهادة وأبطال وجهاد وحنكة قائد)، بينما خلا الكتاب الجديد من ذكر أي شخصية إسلامية.
إن مؤشر الوطنية يحتم علينا تعليم أبنائنا تاريخ بلادهم وتعزيز التحامهم بها وحرصهم على العودة إليها، ولكن في نفس الوقت علينا أن نعلمهم كيف نقتلع هذا المحتل ونطرده من أرضنا حتى نتمكن من العودة إلى أرضنا المسلوبة.