ربع ساعة أو يزيد كان حمله على رأسها ثقيلًا مشبعًا بالحسرة، على عكس تسعة أشهر من حمله في أحشائها كانت تظنها الأصعب، وأخرى حين حملته لدقائق في سجن ريمون قبل سنوات لالتقاط صورة.
ضعيفة البنية، عميقة الملامح والوجع الى حد كبير، وعلى وجنتيها حفر الكبر حفرتين تعكسان عمرها الذي جاوز السبعين بعشر أو يزيد، هكذا يمكن لك أن ترى الفلسطينية نجمة الحمدوني أم الشهيد ياسر في صورتها وهي تحمل ابنها فوق رأسها، التي سرعان ما انتشرت فتوقف عندها المشهد ونبضات القلب.
ستتساءل لا محالة كيف لهذا الجسد الهزيل والقلب الهش أن يستجمع قواه فجأة، ويتعالى على الجراح ليحمل روحه على كتفيه ويشيعها لمثواها الأخير.
"فوكس" اللقطة لم يكن لملامح الشهيد ياسر التي غيبت قسرًا لمدة 14 عامًا داخل سجون الاحتلال، بل صوبت نحو وجه العجوز التي تحمل جثمانه، فأبكت العالم ولم تبك.
الصورة القاتلة
انحناءة أخيرة لأم ياسر وزعت وجعًا بالتساوي على كل من رآها، فتدافعت الدعوات لها بأن يرزقها الله الصبر والسكينة، تضاهت دعوات الرحمة لابنها الشهيد.
أم ياسر التي زارها طيف ابنها خلال سنوات أسره، وأنينه من مرضه بعد تعرضه لاعتداء قوات قمع سجن "النحشون" عليه بالضرب عام 2003، وهو ما سبّب له مشاكل صحية مزمنة في أذنه اليسرى، علاوة على إصابته خلال سنوات اعتقاله بمشاكل في القلب وضيق التنفس.
عاشت الأم وصغار ابنها الاثنين على أمل الافراج عنه، الا أن اللقاء الأول بعد الحرية كان الأخير.
بعد انتظار طويل بأن تحتضن ابنها الأسير ياسر، باغتتها الصدمة كتلك التي أصابت عضلة قلبه فارق بعدها الحياة داخل الأسر في 25 من سبتمبر الجاري في مستشفى "سوروكا" الإسرائيلي بعد إصابته بجلطة قلبية في سجن "ريمون".
وين أزفك؟
لقبت بالأمس القريب بأم الأسير، في حين تحولت بين عشية وضحاها لأم الشهيد، وكأنها أبجدية الصمود التي اختزلتها الأم الفلسطينية فنافست "جمل المحامل" بصبرها.
للوهلة الأولى قد تظن أنها جثة هامدة تماما كابنها، خلال مشاهدتك لها وهي تحتضنه قبل أن يحتضنه تراب يعبد قضاء جنين شمال الضفة المحتلة، حيث تيبست الملامح كما الدمعات، ولا حركة الا لارتعاشة العين والقلب.
من فرط الوجع كان الحضن الأخير صامتًا، حاولت خلاله ترميم روحها مرارًا الا أنها عادت لتصرخ في مشهد لم يسيطر عليه الحاضرون، ووقعت بالحزن فجأة: "وين أزفك وين يا حبيب أمك.. بين العالمين ولا بيت عمك.. وين أزفك وين يا ابن الفقيرة"، حتى دخلت في غيبوبة جديدة.
"أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها .. وعاد مستشهدًا.. فبكت دمعتين ووردة .. ولم تنزو في ثياب الحداد"، كتبها الشاعر محمود درويش قبل سنوات، وطبقتها أم الشهيد ياسر في صورة.