توفي المعمر الفلسطيني إسماعيل محمد عبده "أبو صلاح" ليلة أمس الأربعاء عن عمر يناهز 100 عام، قضاها في حفظ كتاب الله وجلسات الذكر في مسجد البشير بمنطقة الشعف شرق غزة.
الحاج أبو صلاح الذي عرف عنه التزامه بجلسات تحفيظ القران الكريم لأطفال الحي، ارتبط اسمه بقرية الكوفخة قضاء غزة، حيث هُجّر منها عريسًا ابان نكبة 1948.
"الرسالة" تسترجع لقاءها الأخير مع الحاج خلال الذكرى الـ 68 للنكبة الفلسطينية، ووصيته لجيل التحرير التي لخصها بــ" حبوا بعض.. خافوا على بعض".
.........................................
من جيل النكبة الأول
الحاج أبو صلاح انحنى عوده بـ"القرن" وأثقلت ذاكرته بحصاد "الكوفخة"
الرسالة نت -أمل حبيب
تنحني عيدان القمح مثقلة بحملها التي سرعان ما تقبض على عنقها يدا العشريني إسماعيل عبدو ومنجله ليريحها ويفرح هو بالحصاد.
"في نيسان الحصيدة وين ما كان" .. يبهجه هذا المثل الذي يتداوله "ختايرة" قريته استعدادًا للحصيدة بما يتخللها من جهد وعرق يثمر رزقًا وأملًا على وقع رقصات الصبية بين أكوام القش ودندنات الحصادة.
لم يتجاوز "إسماعيل" من عمره ربع قرن حين اشتعلت "أجران" القمح والشعير بحقد العصابات اليهودية يوم اجتيحت قريته "الكوفخة" في الخامس عشر من مايو لعام 1948.
"إسماعيل" هُجّر قسرًا من هناك "عريسًا" فلم يكمل عامه الأول على زفافه، إلا أن "الرسالة" قابلته في منطقة الشعف بغزة وقد بات جدًا وأتم من العمر مئة، في حين باتت كنية الحاج أبو صلاح لا تنفك عنه كما ذاكرة النكبة التي نبشناها وإياه خلال ساعة من الزمن.
ذاكرته جاهزة للبوح، كما كوفية رأسه التي اتخذت موضعها بشكل مدروس للعودة إلى 68عامًا للوراء، في حين تستنفر ايماءات وجهه فترسم تجاعيد عينيه طريق التغريبة التي سلكها وعائلته من الكوفخة لغزة.
يستدعيه نداء قديم لجارتهم أم عامر وصرختها "راحت تشوف دارهم وجيرانهم .. ما رجعت ما رجعت أم عامر" يقول أبو صلاح وقد علق بذاكرته مشهد النسوة والنحيب على من ضاع وتفرق من الصغار إبان الاجتياح.
يحاول جاهدًا أن يرسو بذاكرته المتخمة بالمشاهد لبر سلام فيجد نفسه محتارًا بين أم وجدت نفسها دون رضيعها، وأخرى حملت لقب الأرملة معها في غربتها بعد أن استشهد زوجها مع الفدائية، وبين خيمة اللجوء الأولى والتي اختزلت معالم الوطن المسلوب!.
سنحيا بعد كربتنا ربيعيًا هكذا قالت عينا الحاج أبو صلاح وهو يردد:" إن شاء الله راجعين على البلاد ونعود زي ما كنا".
الكوفخة التي لا يملك لها صورة، ظلت مخبئة في ذاكرة أبو صلاح الحديدية الأمر الذي دفعنا للصلاة على النبي عدة مرات وفق طلبه أحيانًا، بعد دهشتنا من عمره الذي تجاوز المئة إلا أن الروح "شباب" كما اعترفنا له وزدنا بعدها الصلاة على النبي ليطمئن الحاج بأننا نحفظه من الحسد!.
صرخة وخذلان!
تتعثر الكلمات في حلق المهجر أبو صلاح وهو الذي قابلناه بعد ساعة من مكوثه في المستشفى لعدة أيام لتعرضه لوعكة صحية، حاولنا أن نختصر مدة الزيارة إلا أنه وفي كل مرة نهم للخروج يحفزنا بحديثه عن البيدر في الكوفخة، فما من شيء يذكر بالقرية كما تفعل سنابل القمح الذهبية حين تتراقص بين يديه والمنجل.
ويقول:" فيها حصيدة ودراس، كنا ملوكا نحصد وندرس ونأكل من أرضنا".
"بعد المملكة والهنا بيتونا بخان .. أجي أبكي على نفسي ترى المندوب في بلادنا خان" بهذه الترانيم يلخص الحاج حالة الخذلان التي عايشها مهجرو نكبة الـ 1948 بعد الأمل الذي سكنهم بأن الجيوش العربية ستنقذهم خلال يومين أو أكثر!.
"خانونا العرب" يزفر الآه بعدها ويرددها بعد أن كان في قمة حنقه على الجيوش العربية، إلى أن هدأ فجأة وعاد ليستذكر السلطان عبد الحميد الثاني وحرصه على عدم التفريط بشبر واحد من فلسطين!
الحاج أبو صلاح كان الشاهد على انتزاع المحتل من الفلسطيني حريته وسيادته وهويته، مرورًا بفقد مصدر رزقه وقوت يومه، إلى أن اقتلع ابن الأرض من أرضه وشرد في أماكن مختلفة وعلى جبينه حفرت "لاجئ".
أتم القرن أو يزيد لم نختلف على العمر الذي وثقه في الهوية على أنه من مواليد 1921، واتفقنا بأنه لا يزال في مرحلة ربيع العمر، فلم يزره الخريف بعد وهو يردد أهازيج الحصيدة التي كانت تزيدهم حماسا وأملًا بأن يبارك الله في المحصول ومنها:" وان خس الكيل اوفيه يا رب .. ارض المروجات يا الله يا رب".
تجاعيد وجهه رسمت لنا مسجد الكوفخة وأطفال الكتاتيب وتجولنا بين أكوام القش والشعير التي فتحنا عين الدهشة هناك على صرخات الحياة الأولى لمولود تضعه أمه فوقها وتعود لتكمل الحصاد مع أهل القرية!.
الأرض والفلاح والإصرار كيف تقهر وقد بقيت خارطة الدار في ذاكرته حاضرة كما أسماء أحفاده وأبنائهم الذين لم نتمكن من عدهم بعد تجاوزنا للرقم 40 إلا أنه تمكن من توريث حب القرية وتعلقه بها لكل واحد منهم.
اقتلع ابن الكوفخة _قضاء غزة_ منها وهي التي لا تبعد عن غزة سوى 19 كيلومترا، وفي حضرة التغريبة حاول الحاج أن يشرح لنا قربها وارتباطها بغزة، حيث أن المرأة كانت تضع على رأسها الجرة لتعبئتها من بئر الماء في الكوفخة ثم ترجع إلى غزة مشيًا على الأقدام.
كانت "الرسالة" حريصة أن توثق كلمات الحاج وحتى ايماءات وجهه وهو واحد من الجيل الأول للنكبة، "كنت زلمة لما طلعنا وانا الي خبيت المفتاح بجيبي" يهدينا ابتسامة عريضة وهو يسترجع توبيخ والده له بعد ضياع المفتاح، لم يدرك وقتها أن المفتاح سيتحول إلى رمز للعودة يحرص المهجرون في الوطن والشتات على تعليقه في غرفة الضيوف!.
آخر الحديث وصية!
مجبر أن يقمع ثورات حزنه وقهره بصمت إلا انه فاجأنا بثورة من البكاء لمجرد سؤالنا عن وصيته لأحفاده إن عادوا يومًا دونه للبلاد:" حبوا بعض وتعاونوا مع بعض، تعاونوا ضد العدو"، لدقيقتين أو أكثر أجهش بالبكاء الذي روى لحيته البيضاء بعد أن شعر بضياع البوصلة الفلسطينية لحالة الفرقة السياسية والانقسام، وأكمل الوصية:" إذا أصلحنا أنفسنا وكان عملنا خالصا لله راح ترجع البلاد ونعود لها".
كان يوشك على لفظ مفردات عالقة في حلقه الا أنه أدار وجهه وقال:" ايش أقول، خلصت الحكاية".
لا أرق من هذه الليلة وقد تنهد الحاج أبو صلاح وبكى وابتسم بذكرى النكبة مفتخرًا بأمجاد الماضي التي يراها في ثوار انتفاضة اليوم وختم مرددًا: "حنا الي خلقنا للحروب سباع .. أنتم بالمدافع واحنا بالأيادي ما أنتم لنا لقى".