مقال: جدار عين الحلوة، جرعة أخرى من مرارة اللجوء

 إيمان المتسهل
إيمان المتسهل

بقلم/ إيمان المتسهل

يقول المثل الشعبي الفلسطيني "إلي يطلع من داره بينقلّ مقداره". يبدو أن هذا المثل هو أفضل ما يصف حال اللاجئين الفلسطينيين في الشتات، فهو ما نراه يتجسّد فعلاً على أرض الواقع في أغلب المناطق والأمصار التي يتوجه إليها أو يقطنها اللاجئون الفلسطينيون وخاصة في مخيمات اللجوء في الشتات التي تشهد أغلبها أزمات متتالية بسبب النزاعات الدامية والحروب الطاحنة لم تكن آخرها ما تشهده مخيمات خان الشيح ودرعا واليرموك في سوريا من دفع فواتير دم باهظة وجوع وتهجير منذ اندلاع الأزمة السورية في شهر مارس/آذار عام 2011، ولا مخيمات اللجوء في لبنان التي باتت مسرح صراع دامٍ واقتتال سياسي ومذهبي وطائفي وعرقي بين قوى وفصائل متعددة بعضها مدعومٌ من أطراف وجهات إقليمية تسعى معظمها إلى فرض وجودها وسيطرتها على المخيمات وصل إلى حدّ التحالف أو الاصطدام مع القوات اللبنانية والجيش اللبناني ممّا يُعيد بالذاكرة إلى سنوات الدمّ التي عانى منها اللاجئون الفلسطينيون في لبنان. فلا شكّ أن ما شهدته المخيمات الفلسطينية من هول الحروب والتقتيل والمجاعة خلال سنوات الحرب الأهلية في لبنان قد بقي محفورا في وجدان الإنسان الفلسطيني وشكّل نقاطا سوداء كثيرة لطّخت صفحات الودّ بين اللاجئين الفلسطينيين من جهة ولبنان البلد الضيف من جهة أخرى. فخلال الحرب الأهلية، خاض الجيش اللبناني والقوات المارونية والميليشيات المسيحية بزعامة بيير الجميل وكميل شمعون وطوني فرنجية حربا ضروسا ضدّ المخيمات الفلسطينية واقترفت في حقها مجازر مروّعة كانت أشهرها مجزرة "عين الرمانة" في أفريل /نيسان 1975 ومجزرة تل الزعتر في أوت / أغسطس 1976.

ولا شكّ أن ما شهده مخيم نهر البارد خلال شهر ماي/مايو 2007 من أحداث دامية أدت إلى مقتل العديد من أفراد الجيش اللبناني والمدنيين ونزوح اللاجئين خارج المخيم وتدميره بشكل شبه كامل مع قرار الجيش بعدم ترميمه وإعماره إلى حد الآن يعدّ نموذجا لكيفية تعاطي الحكومة اللبنانية والجيش اللبناني مع وضع المخيمات الفلسطينية على أرضها.

فبعد الترحيب اللبناني الشعبي والرسمي للاجئين الفلسطينيين القادمين من القرى الفلسطينية المحتلة عقب نكبة 1984 والذي قُدّر عددهم آنذاك بحوالي 100 ألف لاجئ فلسطيني استقرّ منهم حوالي 15 ألف لاجئ في مخيم عين الحلوة بالجنوب، بدأ هذا الترحيب بالفتور والاضمحلال خاصة من طرف القوى اليمينية التي أبدت رفضا للتواجد الفلسطيني في لبنان وذلك خوفا من الإخلال بالتوازن الديموغرافي للمجتمع اللبناني الذي يضمّ في طوائفه أعراقا مختلفة من مسلمين سنة وشيعة وموارنة وأرمن أورثودوكس ويونان كاثوليك وبروتستانت. هذه السياسية المعادية للتواجد الفلسطيني وعدم قبوله باعتباره يشكل تهديدا لتوازن المجتمع اللبناني، على أساس أن اللاجئين الفلسطينيين هم من الأغلبية السنية المسلمة، تكرّر خلال الأزمة السورية التي اندلعت سنة 2011 وذلك عند قدوم قرابة ربع مليون لاجئ فلسطيني من سوريا وقرابة المليون لاجئ سوري إلى لبنان عبر معابر شرعية ومنافذ أخرى غير شرعية، حيث رفضت الحكومة اللبنانية السابقة برئاسة نجيب ميقاتي إقامة مخيمات لهم وهو ما أيدته جهات أخرى شيعية ترى هي الأخرى في التواجد السني خطرا على أمنها ووجودها.

وفي خضمّ الأزمات التي يعاني منها اللاجئون الفلسطينيون في لبنان في ظلّ سياسة الإقصاء والتهميش والحرمان، شرعت السلطات اللبنانية منذ حوالي شهر ببناء جدار حول مخيم "عين الحلوة" المتاخم لمدينة صيدا الساحلية في جنوب لبنان.

مخيم "عين الحلوة"، الذي يُطلق عليه لقب "عاصمة الشتات الفلسطيني"، يُعتبر أكبر مخيم للاّجئين الفلسطينيين في لبنان، يقطنه أكثر من 80 ألف لاجئ جاء معظمهم من قرى الجليل الأعلى في فلسطين عقب نكبة 1948 ثم هزيمة 1967، وتعدّ مساحته حوالي 1 كيلومتر مربّع لم تتسع ولم تتوسع منذ إنشائه سنة 1949 من طرف وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين في الشرق الأدنى الأونروا وذلك بسبب قانون منع التوطين باعتبار حق العودة وباعتبار أن اللاجئين الفلسطينيين هم سكان مؤقتون أو ضيوف إلى حين رجوعهم إلى بلدهم الذي هُجّروا منه.  لكن هل يُعامل اللاجئ الفلسطيني في لبنان فعلاً على أساس أنه مواطن مؤقّت أو ضيف مع الأخذ بعين الإعتبار ما تتطلبّه تقاليد الضيافة من جود وكرم وحسن معاملة؟ واقع الحال للأسف لا يشير إلى ذلك البتّة، فبسبب قانون منع التوطين، يُحرم اللاجئ الفلسطيني من الحقوق المدنية والإقتصادية والإجتماعية والسياسية والثقافية.

فلا يمكن البناء في المخيم إلا بالحصول على ترخيص من طرف مخابرات الجيش اللبناني سواء من أجل الترميم أو بناء مسكن جديد الذي لا يمكن بناؤه إلا بطريقة عمودية بسبب عدم توفر المساحة للبناء على الرغم من مرور ستة عقود من الزمن على إنشاء المخيم وبالرغم من النمو الديموغرافي للاجئين وازدياد عددهم بشكل كبير، كما يتم فرض قيود مجحفة في آلية إدخال مواد البناء حيث تتم إدخال كميات محدودة جدا لأغراض بسيطة مثل الترميم، في وضع يشبه إلى حد كبير خطة سيري لإعادة الإعمار في غزة. كما أن اللاجئين الفلسطينيين لا يتمتعون بحقوق المواطنة والمساواة مع المواطنين اللبنانيين في مجالات العمل والضمان الإجتماعي، كما أنهم ممنوعون من حق الملكية أو العمل والإستثمار في القطاع الخاص، مما أجبر فئة كبيرة منهم إلى امتهان الأعمال اليدوية و الحرف والأعمال الشاقة مما جعلهم عبارة عن يد عاملة رخيصة في المجتمع اللبناني وهو ما يتعارض مع القوانين والأعراف الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

وفي نفس سياق الحريات، فاللاجئ الفلسطيني في لبنان لا يتمتع بحرية السفر والتنقل بسبب القيود المفروضة على اللاجئين في مخيمات الجنوب اللبناني في "عين الحلوة" و"المية مية"، أما في الشمال في مخيم "نهر البارد" الذي تم تدميره بشكل شبه كامل خلال أحداث 2007، فالحصار والقيود هناك هي الأكثر تشددا.

يُعتبر مخيم "عين الحلوة" أكثر المخيمات الفلسطينية في لبنان توترا، فهو لا يزال حلبة صراع بين فصائل وميليشيات عديدة تسعى إلى فرض السيطرة على المخيم بقوة السلاح. فالمخيم يضمّ معظم الفصائل والقوى الفلسطينية مثل كتائب الأقصى التابعة لحركة فتح والتي تعتبر الفصيل الأكثر تمثيلاً ونفوذا في المخيم وهي تسيطر أيضا على اللجنة الشعبية في المخيم، علاوة على فصائل فلسطينية أخرى مثل حركة حماس والجهاد الإسلامي وكتائب جند الشام وحركة أنصار الله الموالية لحزب الله اللبناني وإيران وجماعة فتح الإسلام التابعة لتنظيم الدولة. لا شكّ أن المخيم يتأثر بكل المتغيرات والأحداث الواقعة في الجوار السوري والفلسطيني والإسرائيلي باعتبار أن المخيّم يقع على مرمى حجر من كلّ الأحداث الإقليمية هناك، فهو لم ينفكّ يشهد منذ سنوات وعلى مدار العام اشتباكات مسلحة بين فصائل وميليشيات عديدة كانت آخرها الإشتباكات بين ميليشيات موالية لمحمد دحلان وأخرى موالية لرئيس السلطة محمود عباس وما شهده قبل ذلك من اشتباكات دامية بين كتائب حركة فتح وعناصر من كتائب جند الشام الإسلامية التي يُقال أن حركة فتح ترغب بإنهاء تواجدها وتواجد كل الحركات الإسلامية في المخيم.

ولأنّ مخيم عين الحلوة لا يخلو من مشاكل، فلقد شهد منذ حوالي شهر شروع الجيش اللبناني في بناء جدار إسمنتي يصل ارتفاعه إلى 6 أمتار مدعوم بأسلاك شائكة وأبراج مراقبة يصل ارتفاعها إلى حدود 9 أمتار تلفّه من كافة الجهات في خطوة تراها الحكومة اللبنانية مهمة واستراتيجية من أجل تقييد حركة الإرهابيين والخارجين عن القانون والفارين من العدالة وضبط تحركاتهم وإحباط إمدادهم بالسلاح. فحسب المشروع، سيتمكن الجيش اللبناني  من بناء صرح عالٍ ليبلغ الأسباب ويطلع على شؤون المخيّم.

هذا المشروع قُوبل برفض فصائلي فلسطيني واسع وبغضب واحتقان شعبي كبير من طرف اللاجئين الفلسطينيين باستثناء منظمة التحرير الوطني التي لم أقرأ لها أي بيان شجب أو استنكار لمشروع الجدار بل بالعكس فلقد أبدت موافقة لقرار بناء جدار العزل، عكس ما أبدته الفصائل الفلسطينية الأخرى مثل حركة حماس التي أدانت مشروع بناء الجدار وأصدرت في ذلك بيان تنديد واصفة إياه بالقرار الخاطئ والمضرّ بمستقبل القضية الفلسطينية وبمصالح اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.

في الحقيقة، مشروع بناء جدار عين الحلوة لم يكن مشروعا حديثا أو وليد الأحداث التي شهدها المخيم وخاصة خلال شهر مارس وأغسطس من سنة 2016، بل الحديث يدور أن المشروع كان مبرمجا منذ 10 سنوات وأن الاستخبارات اللبنانية كانت سنة 2012  قد أعلمت الجهات الفلسطينية في لبنان عن نية الجيش بناء جدار يلفّ المخيم إلّا أن بعض الفصائل الفلسطينية في لبنان نفت أن يكون قد تم استشارتها في مشروع بناء الجدار أوالأبراج، لكن، المهم أن المشروع كان مخططا له من قبل من طرف الحكومة اللبنانية وتم تنفيذه فور تنصيب العماد ميشيل عون رئيسا للبلاد حيث يستمر المشروع ل15 شهرا بتكلفة تُقدّر ب5 ملايين دولار لم تُصرف لمساعدة اللاجئين الفلسطينيين ولا لتحسين مساكنهم المشقّقة والمصدّعة أو تعبيد طرقاتهم المتهرّئة ولا توسعتها وإنما لوضع أكثر من 80 ألف لاجئ في مكان أشبه ما يكون بمعسكرات الإعتقال بمعزل عن العالم ليتمّ تقييدهم عبر نقاط تفتيش وضبط تحركاتهم عبر معابر يشرف عليها الجيش اللبناني وهو نفس الواقع الذي يعيشه الفلسطينيون في الضفة الغربية المحتلة أين يفصل جدار الفصل العنصري الصهيوني مدن الضفة عن مستوطنات الكيان. وهو مشروع لا شك أنه منافٍ للقوانين والأعراف الدولية ومناقض تماما لتاريخ العلاقة القوية التي تجمع البلد المضيف لبنان باللاجئين الفلسطينيين الذين يعتبرون أنفسهم ضيوفاً أو مواطنين مؤقتين لحين العودة إلى موطنهم الذي هُجِّروا منه قسرًا بفعل الإحتلال الصهيوني. فاللاجئون الفلسطينيون في مخيم عين الحلوة يعانون من أزمات عديدة، فهم يفتقرون للمرافق الأساسية والخدماتية والتعليمية والصحية حيث لا يوجد في كامل المخيم أي مستشفى، فأقرب مستشفى لهم هو مستشفى الهمشري في مدينة صيدا وهو يحتوي على المركز الوحيد لغسل الكلى، حيث يعاني عدد كبير من اللاجئين من أمراض مزمنة كأمراض القلب والسرطان والكلى بسبب تلوّث مياه الشرب. زد على ذلك، فالبنية التحتية لمخيم عين الحلوة هشة والبنايات قديمة وأغلبها مشققة ولا يتم ترميمها إلا نادرا بسبب سياسة الإهمال والتهميش، كما أن الطرق ضيقة ومهترئة. ببساطة فالمخيم يعاني من سوء الأوضاع المعيشية وتدهور كبير في كافة النواحي العمرانية والصحية والخدماتية والتعليمية، ومما زاد في تفاقم الأزمة في مخيم عين الحلوة وبقية مخيمات الشتات هي سياسة التقشف والتقليصات التي توخّتها وكالة الأونروا بحق اللاجئين الفلسطينيين حيث باتت تحرمهم من أبسط حقوقهم الصحية والتعليمية متنصّلة بذلك من مسؤولياتها تجاه الشعب الذي أسهمت مؤسستها الأم، الأمم المتحدة، بتشريده في كافة أصقاع المعمورة عبر تهجيره من أرضه وتوطينه في مخيمات هي أشبه ما تكون بالكنتونات أو الغيتوات التي شهدتها الولايات المتحدة في عهد التمييز العنصري بين البيض والسود، ليجد هذا الشعب نفسه عرضة لسوء المعاملة والإضطهاد والإبتزاز وفي أغلب الأحيان ضحية صراعات دامية ورهينة صفقات لئيمة. ويبقى اللاجئ الفلسطيني في لبنان يعاني مرارة الغربة واللجوء يركض وراء سراب المواطنة حالما في الآن ذاته بالعودة، وفي بعض الأحيان ينفجر قائلا: أنا لاجئ مش لازق؟

 

 

البث المباشر