يوافق اليوم الذكرى الـ 24 لإبعاد قوات الاحتلال الإسرائيلي قادة حركة "حماس" والجهاد الإسلامي إلى مرج الزهور جنوب لبنان، قبل أن يعودوا إلى الأراضي الفلسطينية.
ففي الرابع عشر من ديسمبر عام 1992م انتهت المدة التي حددتها كتائب القسام ، من أجل الإفراج عن رئيس الحركة الشيخ أحمد ياسين المعتقل لديها، لقاء الإفراج عن الرقيب أول نسيم توليدانو المأسور لديها، وخسر الاحتلال حياة توليدانو نتيجة تعثر الوصول لاتفاق يُبرمُ خلاله صفقة للتبادل.
بعد يومين فقط ألقى القسام جثة توليدانو على طريق القدس أريحا، ما جن جنون رئيس وزراء الاحتلال آنذاك إسحاق رابين، وأعلن من داخل الكنيست الحرب على "حماس"، فبدأ حربه بإبعاد 415 من قادة العمل الإسلامي جُلهم من الحركة إلى مرج الزهور بجنوب لبنان، والذي يصادف اليوم 17 ديسمبر.
وداهمت قوات الاحتلال منازل من وضعت أسماءهم على لائحة الإبعاد، وجُمعوا جمعياً بشاحنات غير مخصصة للنقل الآدمي، سارت الشاحنات لساعات عديدة فظن المبعدون أن الأسر هذه المرة لن يكون في السجون المعروفة والموجودة بغزة والضفة، لكن أقصى ما توقعوه أن تكون وجهتهم نحو سجن صحراء النقب.
بعد أن مضت 60 ساعة ولم تصل الشاحنات إلى مقصدها أدرك المبعدون أن القضية أكبر من الاعتقال، وأن وجهتهم ليست النقب. لحظات حتى وجدوا أنفسهم على الحدود اللبنانية بعد أن أبلغهم الضابط المسؤول أنهم مبعدون بقرار من رئيس وزراء الاحتلال إسحاق رابين.
ورفض المبعدون الدخول إلى لبنان والاكتفاء بإقامة مخيم على الحدود اللبنانية على تلال الثلج، وصنعوا لأنفسهم مجتمعاً داخل هذا المخيم والذي أطلقوا عليه اسم "العودة" لترسيخ مبدأ العودة القريبة.
ونجح المبعدون في استقطاب اهتمام وسائل الإعلام العربية والأجنبية، وإحراج حكومة رابين، وحشد التأييد لهم لدى الرأي العام من خلال تحويل المنطقة التي أبعدوا إليها إلى ميدان للتعليم والخدمات الصحية.
لم يقتصر جهد المبعدين على الجانب الإعلامي فقط رغم أهميته الكُبرى، إلا أنهم ساروا بخطٍ متوازٍ في البناء والتربية، فأسسوا جامعة "ابن تيمية" التي ضمت 88 طالباً جامعياً، وحاضر فيها العديد من الأكاديميين المبعدين، وكان التدريس فيها علي أسس علمية وجامعية كالمعتمدة في جامعات فلسطين.
كما أنهم نجحوا في التنسيق مع الجامعات الفلسطينية في الضفة وغزة لاحتساب المساقات التي تدرس بجامعة ابن تيمية، وقد تخرج في الدفعة الأولى 15 طالباً وتم اعتماد شهادتهم في جميع الجامعات الفلسطينية بعد ذلك، كما أقامت الجامعة دورات تدريبية لغير طلبة الجامعات فاستغلوا أوقاتهم، وطوّروا قدراتهم.
أراد الاحتلال أن يكون الإبعاد منفى ونكبة لقادة العمل الإسلامي، لكنهم جعلوا من نكبتهم رحلة وتجربة في كل المجالات، فوظفوا طاقاتهم جميعاً، وأنشأوا عيادة طبية يديرها الدكتور عمر فروانة تعمل على مدار الساعة لمداواة مرضاهم، نجحت في إجراء عدة عمليات جراحية لعدد من المبعدين، حتى أن عدداً من سكان منطقة مرج الزهور تلقوا علاجا منها.
فصولٌ من العذاب والمعاناة عاش تفاصيلها مبعدو مرج الزهور طيلة فترة إبعاده، إذ عاشوا في طبيعة مناخية غير تلك التي اعتادوا عليها، وظروفا استثنائية لم يتعودوا عليها قط، عمقت إيمانهم أن لا خيار غير العودة يُقبل.
وفي غضون ذلك، كان قرار جيش الاحتلال الإسرائيلي بعدم السماح لهم بالعودة، فرابط المبعدون على تلة جنوب لبنان، وأقاموا هناك رغم الظروف الحياتية الصعبة والبرد الشديد، فكان الصليب الأحمر الدولي أول من وصل إلى المبعدين ونقل لهم الخيام والأغطية وبعض المستلزمات الأساسية الأولية للاستقرار، وبدأت وسائل الإعلام بالتحرك لتنقل وقائعهم صورة وصوتاً وحدثا.
ولم يتوقف المبعدون عن تنظيم المسيرات والوقفات الاحتجاجية للمطالبة بحقهم في العودة، وبرز من هذه الفعاليات "مسيرة الأكفان" في أبريل من عام 1993م، التي لبس فيها المبعدون أكفانهم واتجهوا نحو الحدود لرفضهم أي قرار سوى العودة إلى ديارهم.
وقد عرف المبعدون حينها أن القرار اللبناني بعدم دخولهم لبنان كان قد تم بناء على اتصالات بين قيادات حركة حماس في الخارج وبين الحكومة اللبنانية، من أجل خلق ورقة ضغط على الاحتلال لإعادتهم إلى الوطن بدلاً من إبعادهم مدى الحياة.
لحق بالاحتلال العار، فلم يحقق مراده بإبعاد قادة العمل الوطني في تسعينات القرن الماضي، فعادوا أكثر سعياً لمقاومة الاحتلال، بعدما كسبوا تعاطفاً عالمياً مع قضيتهم، لتفشل بذلك سياسة الإبعاد.