قائمة الموقع

محاكمة قلب

2017-01-02T15:41:57+02:00
كتبه/ محمد إسماعيل ياسين

محكمة، صاحت الحنجرة مزمجرة بعدما سيق القلب إلى قفص الاتهام، وعلا الضمير منصة القضاة، معلناً بذلك انطلاق جلسة محاكمة القلب إثر دعوى مستعجلة اختصمه فيها العقل، متهماً إياه بالميل نحو الطيبين أمثاله، وسيلان مشاعره وابتعادها قليلاً عن مسارها، وإزهاقه الروح بفيض وداده، محملاً إياها ما لا طاقة لها به، حيث استهل الضمير الجلسة بتلاوة لائحة الاتهام قبل أن يسأل القلب: ما هو قولك فيما هو منسوب إليك من التهم المذكورة آنفاً ؟!، فيما العقل ينصت ويتابع بشغف كبير، مرجحاً صدور الحكم لصالح منطقه وضد خصمه.

لمح القلب ملامح الارتياح البادية على العقل، وعلى وقع نبضاته المتسارعة، رد مخاطباً قاضي المحكمة بقوله: وما ذنبي سوى أني محب، رماني الريم في كبدي وسارا ؟!، ألا تعلم سيادة القاضي أنه لا سلطان لكم عليّ !، وأننا معشر القلوب بيد الرحمن يصرفها كيفما شاء، وأن المحبة من الله، وأني أكثركم وجعاً وألماً حين تحرقني نار الحب دون أن أمتلك سبيلًا لإطفائها !، فهل بات الاعتراف بالحب جريمة !.

لكن.. لكن.. سيادة القاضي، صاح العقل مقاطعاً حديث القلب بعدما شعر أن منطقه يتسلل إلى الضمير، ويكاد يقنعه بإصدار الحكم لصالحه، غير أن القاضي أومأ له بالصمت فصمت، ثم واصل القلب دفاعه قائلاً: إن المشاعر النبيلة تمنح الحياة بهجتها ورونقها، وإن كان بعضها للروح مرهقًا وللنفس مزهقًا، والحب ما دام حبيس القلب فلا ضير إذن، ثم تابع متسائلاً: إذا حاربتم مشاعر الود فإنكم بذلك تفسحون الطريق لنقيضها، فهل تسمحون سيادة القاضي للكره أن يسود!، وللبغض أن ينتصر ؟!!..

تجاهل الضمير الرد على أسئلة القلب، ثم أعطى المجال للعقل كي يبرر اتهاماته للقلب، فاستهل حديثه بالقول: لا نعادي المشاعر الطيبة، ولا نرفضها، لكن كل ما ننشده أن نضبطها، وألا تخرج عن مسارها بحال من الأحوال، فمشاعر الود الصادقة النابعة من القلب أمر محمود بالعموم، لكن خروجها عن سياقها مرفوض، ويجلب المتاعب للروح قبل غيرها.

زادت أجواء المحاكمة توتراً، وخفق القلب طالبًا الإذن بالحديث، فمنحه الضمير فرصة للرد، فقال: إن الله أمات وأحيا، وأضحك وأبكى، وأغنى وأقنى، وهو رب الشعرى، فهل تودون نصب محاكم تفتيش قلبية لتعرفوا من نحب ومن نبغض ؟!، ألهذا الحد تقتحمون أدق الخصوصيات ؟!، وتودون التحكم حتى بمشاعرنا التي لا سلطان لنا عليها ؟!!، أما سمعتم دعاء نبي الرحمة: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني بما لا أملك"؟، مشيراً بذلك لميله القلبي لإحدى زوجاته _رضي الله عنهن_، إذ لا سلطان لكم معشر البشر على الأفئدة. 

 

عندها، نظر الضمير إلى العقل مستفسراً عن رده على حجة القلب، فتلعثم بعض الشيء ثم انطلق قائلاً: كلا، نريد صيانة النفس وحفظ الروح، واجتناب مسالك الهوى، إذ إن الهوى يهوي بمتبعه إلى مهاوي الردى، وهذا ما نخشى أن يكون، وبحكم مسؤوليتي أوضح المخاطر لئلا يقودنا القلب إلى مربع الندم، وعندها ولات حين مندم.

بعد ذلك، التفت الضمير إلى القلب كأنما يستنطقه قبل رفع الجلسة للمداولة، فما وجد منه غير الصمت، واشتداد وقع نبضاته بانتظار الحكم، حينها رفع الجلسة، وساد الصمت الرهيب، وراح العقل يمعن في حساباته المنطقية، والقلب يعتصر ألماً على طيبته التي قادته إلى المحاكمة، فيما الروح تروح وتغدو مترقبة نطق الضمير بحكمه الذي طال انتظاره.

مرت الدقائق ثقيلة متثاقلة على القلب والعقل والروح، إذ إن التأني ديدن الضمير في القضايا الحاسمة، وحين عاد إلى منصة القضاة، صاحت الحنجرة مجدداً، محكمة، وعندها الأنفاس حبست، والأصوات كتمت، وحدقت العيون بالقاضي شاخصة متربصة، فنطق الضمير مصدراً حكمه قبل أن يُنهي المحاكمة، فنص حكمه أنه بالاستناد إلى القيم والمبادئ الناظمة، وعملاً بالأصول المتعارفة، قررت المحكمة الانتصار لمنطق العقل درأً للمفسدة، وإدانة القلب بالتهم المنسوبة إليه، وتغريمه بإحكام تحصينه لئلا يُخترق مجدداً فيحترق، فضلاً عن إلزامه بوأد المشاعر الزائدة.

نهض فؤاد من سباته العميق على وقع صدى صوت الضمير، منهياً بذلك فصول المحاكمة التي دارت أحداثها في مخيلته، مردداً عبارات الحمد، إذ تعافى مما ألم به سالفاً، ونجح بوأد المشاعر الزائدة، فيما الابتسامة تسللت إلى وجهه فرحاً بانتصار العقل في ميدان المواجهة.   

اخبار ذات صلة