برفقة " أمير الظل":

المقاوم، الإنسان، العاشق، عبد الله البرغوثي

امير الظل
امير الظل

الرسالة نت

رشا فرحات

تأخرت كثيرا في قراءة هذه السيرة الذاتية، تأخرت كثيرا في الدخول الى عالم عبد الله البرغوثي، أمير الظل، والذي بنى نفسه من البداية الى النهاية، مقاوما بدرجة امتياز حتى كان معه كل الحق بتلقيب نفسه بالأمير.

بدءا بالعنوان، فهو لم يخطئ، أمير فعلا، وفي الظل، لأنه كان من البداية الى ما قبل النهاية يقف في مكان غير واضح، ويقوم بأعمال دوخت الاحتلال، ولم يعرف صاحبها.

"أمير الظل" رواية خفيفة الظل أيضا، وإن كنت لا أرى أنها رواية بالمعنى الكامل، فهي سيرة ذاتية تقع في 148 صفحة، يرد فيها الأسير عبد الله البرغوثي على استفسارات ابنته تالا، بأسلوب رشيق خفيف، وان كان ينقصه خبرة الأديب، وكُتاب السير الذاتية، وذلك الوصف الدقيق للأحداث التي تبنى عليها الرواية في أغلب الأحيان، وربما لأن التفاصيل في الكتاب كثيرة والأسماء والأحداث مزدحمة، ومن المعلوم أيضاً أنه الكتاب الأول للأسير عبد الله البرغوثي ضمن سلسة روايات تالية سنتحدث عنها لاحقا.

ولعل الملفت للنظر تلك الروح الجميلة المؤثرة ، التي بدأ بها الكاتب كتابه برسالة ابنته تالا التي ترسل له أسئلة مؤثرة تريد من خلالها معرفته أكثر.

ويظهر في سياق رسالتها ذلك الغموض حول والدها والذي يحيرها حينما تسأل: كيف يكون الأسير بطلا؟ من أنت يا أبي، هل أنت مقاوم بطل؟ هل أنت متهور؟ خاض حربا لا ناقة له بها ولا جمل، لماذا تركتني وحيدة؟

كل تلك الأسئلة ينجح عبد الله البرغوثي في الإجابة عنها إجابة وافية كافية، حينما يصل بالقارئ في النهاية لأن يسأل، أسئلة أخرى كما سألت أنا نفسي، كيف، ومن ذا الذي سخره لفعل ذلك، وهذه العبقرية التي في عقله، من أين اتى بها، ولماذا، أجل، لأجل ذلك خلق، وكأنه لا ينطق عن الهوى، إن هوى إلا وحي يوحى.

أجل في كل خطوة خطاها الشاب عبد الله كان وحيا يوحى اليه، بأن يسير في هذا الاتجاه، منذ تربى في الكويت وبدأ في التدريب على الأعمال القتالية، وكأن الله يهيئه ليبدأ الطريق، ومن ثم تقوم حرب الكويت ويشاركني عبد الله البرغوثي نفس الرأي تجاه الرئيس العراقي صدام حسين، انا التي كنت أعتقد أنني وحدي من يصفه بالفاجر والظالم، بينما يعلن البرغوثي ولاءه لذلك الوطن الذي تربى فيه، ولاءه للكويت، وحنينه لأيام الطفولة فيها، وتفاصيل خروجه من الكويت إلى الأردن.

 ومن ثم يسخره الله للسفر إلى كوريا، وهو ما زال على ذات الشغف من حب التعلم للرياضة والأعمال القتالية، ولكنه يمر مرور الكرام على تعلمه لفنون القتال وكنت أحب أن أقرأ أكثر من ذلك عن حياة طفولته في الكويت، وحرب الخليج، وكيف يمكن لفلسطيني أن يتعلم فنون القتال في الكويت ؟!!!

ثم يستعرض البرغوثي – سريعا أيضا- انتقاله للأردن، ومعاناة والده جراء حرب الخليج، والموقف الفلسطيني الذي انتهى بطرد الفلسطينيين من الكويت! وما خلفته من دمار نفسي في نفوس الفلسطينيين وتشردهم.

يكمل عبد الله البرغوثي مختصرا فصول حياته في الأردن، ثم انتقاله إلى كوريا للعمل، وما وجده هناك من معناة، وما حمله بقلبه من أسرار وإصرار على مواصلة السير وشغف تعلم الهندسة ليلا في غرفة العمال حيث كان يبيت في حياة لم تكن تناسبه على الأقل، ولكن ذلك الإصرار الغريب الذي كان يسكنه هو دليل آخر على أنه كان مسيرا لا مخيرا في جمع المال، بل و المزيد من المال، ثم صرف هذا المال كله على المقاومة، ذلك العقل الذي يفعل ذلك، هو من العقل الذي سخره الله فقط للجهاد والمقاومة ولا شيء غير ذلك، هو لم يختر قدره الذي يريد، وإنما هذا القدر هو من اختاره وسخره الله لذلك.

يكمل عبد الله البرغوثي دراسة الهندسة ويعود بزوجته الكورية الى الأردن، المرأة التي أحبها وحبس نفسه لفراقها ورحيلها لأنها لم تقبل فكرة زواجه من أخرى بسبب الانجاب.

كل تلك العواطف الجميلة العادية يكتبها البرغوثي بشكل متميز، وأقول أنا متميز لأن أبناء المقاومة الإسلامية عادة متحفظون عن وصف مشاعرهم، وهذا ما أبهرني بأسلوب البرغوثي، فهو منطلق، متحرر.  يحزن لطلاق زوجته الكورية فيحبس نفسه في بيته حزنا على فراق محبوبته، هو الرجل العادي الذي يقابل قريبته الفلسطينية فيرى فيها أجمل العيون، ثم يتزوجها وينعم بالمعنى الحقيقي للحب بعد حرمان طويل، ثم تنجب ابنته فيقتحم غرفة العمليات فرحا مصرا على أن يكون أول من يتلقفها.

البرغوثي أدخلنا من خلال هذه الرواية إلى نفس المقاوم، المهندس، صاحب العمليات الأكبر، أخطر أسير، فاكتشفنا أنه أيضا إنسان عادي، مثلي ومثلك، بحب ويتزوج ويطلق، ويبكي للفراق، ويجوع، ويسعى وراء المال، ويتلهف لحضن طفل، ويتشوق لسماع صوت أمه، ولكنه مختلف بأنه ترك كل ذلك، وسخره في سبيل المقاومة.

في القسم الأكبر من الرواية يعمل عبد الله البرغوثي على أرشفة قصص الشهداء والمقاومين ممن شاركوه في عملياته، فيعطي كل واحد منهم فصلا في سيرته، يصف فيه بطولة هذا الشهيد، أو هذا الأسير، وكيف سارت العملية بقيادة البرغوثي وتخطيطه، وما فعلوه لإنجاح المهمة، بطريقة سلسة، يكتب فيحملك إلى عالم تظنه خيال، وفي كل سطر تعرف لماذا تتخوف إسرائيل من هذا الرجل!

ولكني استغربت أنه لم يذكر غزة، التي يراها الجميع مهد كتائب القسام، ولماذا لم يكن هناك تعاون بين عبد الله البرغوثي وعناصر القسام في غزة، أو شخصيات من حماس، فإذا كان عبد الله البرغوث هو من دعم مشروعه المقاوم الخاص من البداية إلى النهاية، بالعتاد والمال، والتصنيع، فلماذا اعتبر نفسه من رجال القسام؟؟ ربما سيجيبنا عبد الله البرغوثي على ذلك إذا قرأ هذه السطور يوما! وربما تحفظ على ذكر أي تفاصيل تخص غزة لأسباب لا نعلمها!

ولكن ما أبهرني أكثر -أنا التي أقرأ لأبحث عن الكلمة الجميلة- هو النهاية البسيطة الإنسانية الصادقة، فهذا عبد الله المهندس القوي، الذي يظهر الغرور في سطور روايته لمن لا يعرف القراءة في أعماق البشر، فتشعر للحظة  أنه بدى مزهوا بما فعل، يكسر كل ذلك حينما يعترف في سطور روايته الأخيرة بتلك الأشواق التي تعصف به لحرية قريبة، وكم كان متألما، منتظرا أن يكون اسمه ضمن قائمة صفقة الأحرار، ولكنه لم يكن.

يرسل رسالة إلى أبطال عملية الوهم المتبدد ويقول: ذلك الحلم الذي حلمت أن اصحوا منه محررا، حلمت أن أعود إلى كومة حجارة قلعتي، إلى أطفالي على زوجتي، إلى أمي وابي ، إلى كل من احبوني من الأخوة والأخوات، الوهم المتبدد الذي جعلني أعيش أملا وحلما، استيقظت من الحلم وعاد من عاد إلى أهله وذويه، من الأسرى المحررين، عادوا إلى غزة الحصار والانتصار، إلى القدس، وإلى الضفة، وغادر من غادر مبعدا إلى بلاد الغربة، أما أنا عبد الله البرغوثي، حسن سلامة، إبراهيم حامد، جمال أبو الهيجا، أما أنا عباس السيد، اما أنا محمود عيسى، اما أنا أحمد المغربي، أما أنا بلال البرغوثي، اما أنا وائل العباسي، أما أنا فبقيت مقيدا بزلزالة العزل الانفرادي حتى يومنا هذا، فذهب الوهم المتبدد ادراج الرياح.

 

بقي أن أقول لكم أن

الكاتب هو عبد الله غالب عبد الله البرغوثي (ولد في 1972م، الكويت) مهندس وقائد كتائب عز الدين القسام سابقاً في الضفة الغربية، أسير في السجون الإسرائيلية، يقضي حاليا حكماً من أعظم الأحكام في التاريخ بالسجن المؤبد 67 مرة، إضافة إلى خمسة آلاف ومائتي (5200) عام؛ لمسؤوليته عن مقتل 67 إسرائيلياً في سلسلة عمليات نفذت بين العامين 2000 و2003م، يعتبر خليفة يحيى عياش في إدارة العمليات الاستشهادية.

 

البث المباشر