"اليوم السابع": ولادة من رحم القطار

يو هوا
يو هوا

العربي الجديد

العربي الجديد

من خلال تصويره للحظة ولادة بطل روايته، يانغ في، يسلّط الكاتب الصيني يو هوا (1960) الأضواء على فكرة الولادة في عموميتها وتجريدها وأثرها في بناء المجتمعات، معيداً هذا "الابن" إلى آباء آخرين لا يذكرهم النسب الذي يتداوله الناس.

ففي روايته "اليوم السابع" (2016)، الصادرة مؤخراً بالعربيّة عن "المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب" في الكويت بترجمة عبد العزيز حمدي عبد العزيز، ينطلق الكاتب من حكاية امرأة حبلى (أمّ يانغ في) تعاني وهي في القطار ألماً في بطنها يدفعها للدخول إلى "مرحاض" القاطرة التي تقلّها في رحلة تجاوزت العشر ساعات.

تغفل الأم أن المولود الذي يتشكّل في رحمها منذ تسعة أشهر قد نفد صبره، وما إن تقرفص، حتى تشعر بانزلاق طفلها في فتحة المرحاض المشرعة على سكة الحديد، ليخرج تاركاً خلفه خيطاً من الدم. تصرخ الأم بالركّاب "فقدت ابني، فقدت ابني"، فيما يبتعد القطار تاركاً قطعة اللحم اللزجة بعيداً وراءه.

فتح يو هوا في هذا المشهد الباب كاملاً على سيرة العصر الجديد والولادة من رحم الآلة والمعادن المتسارعة، إذ أن المولود الجديد لا ينتسب إلى الأم التي لم يبصر ملامحها، وإنما إلى القطار الهائل الذي تربّى على صوت هديره بعد أن التقطه عامل المحطة الأعزب الفقير وقرّر أن يربّيه، فصار ابن الآلة المعدنية التي تطل عليه كلما مرّت بمحاذاة غرفة أبيه الجديد.

 يدفع بنا يو هوا نحو مساحة من الأسئلة الشائكة فيضعنا في بقعة فكرية ساخنة أنهكت عقول الكثير من المفكرين في القرن التاسع عشر والعشرين، فسؤال الولادة ظل معادلاً لسؤال تكوّن الحضارة. سؤال طرحه كبار الفلاسفة ووضعوا فيه تصوّرات عديدة حتى صار حلبة للنزال المعرفي.

ينكشف مجمل هذه المنجز الفكري بالرجوع إلى فلسفة تاريخ الحضارات، إذ تظهر ملامحها في سلسلة من التيّارات والنظريات التي تلخّص مجمل ما أنجزه العقل الفلسفي الغربي حول مفهوم الولادة، وعلاقته بتكوين الحضارة، فمنها نظرية العامل التام، أو العامل الأقوى، ومنها نظرية أصالة التعهد، وأخرى نظرية "أصالة الدفاع والهجوم"، إضافة لكثير من النظريات، مثل أصالة الجغرافيا، وأصالة الصراع مع الطبيعة، وأصالة الحب، وغيرها.

في سريالية عميقة، يفتح يو هوا المشهد كاملاً في روايته حتى يشمل ضحايا اقتصاد السوق وصناعة الموت في الصين التي لا تزال قائمة ولا تزال الصين تعاني منها، وعرض ملفات للفساد، وعنف الشرطة والقمع السياسي وهدم المنازل على سكانها، بالإضافة إلى حكايات سوء المعاملة التي يعاني منها المواطنون الصينيون العاديون على أيدي الأقوياء والأثرياء.

 

من جهة أخرى تبدو البعض من هذه القصص، كما لو أنها مستمدة من صحافة الإثارة في البلاد، والتي توظف لنقد الصين المعاصرة، وهي صحافة تتجه مباشرة إلى مواضيع الفساد والجشع المالي، والطبقية الاجتماعية، وحتى التمييز داخل المجتمع الواحد، فتأتي هذه الرواية لتفجر الأوضاع من القلب، كاشفة كل العيوب، وناقدة للواقع التعيس الذي يعيش فيه الصينيون.

 

ويظهر العالم الذي يتحدث عنه يو هوا شبيها بالعالم الحقيقي، فهو عالم غير عادل، تسوده المشاحنات وعدم الثبات، رغم أن الراوي التقى بأصدقائه الموتى، وتحدث إليهم، إلا أنه في كل مرة يحاول أن يجمّل هذا العالم، بإبراز سوداوية العالم الحقيقي، ووصف طبيعة المكان، الذي صار ملاذا لهؤلاء كي يتطارحوا الأفكار ويحاولوا استرجاع صور حياتهم، والوقوف على أخطائهم، وإضفاء القليل من الضحك على الحوارات الدائرة بين المتوفين.

البث المباشر