رشا فرحات
عمتي حليمة ، امرأة لا تعرف عمرها الحقيقي، قالت لي يومًا أنها ربما كانت ابنة ثماني عشرة عاماً حينما هاجرت من قرية "البطاني الغربي"، وفي خضم تلك النكبة تزوجت من خالي، بين طريقين لا تذكر أيهما كان طريقها للوصول إلى هنا .
على كومة من القش جلست عمتي في صباها، بمعالم تخلو من أي نكهات للفرح، ترتدي في قدميها حذاًء رياضياً لا يناسب عروس، عثرت عليه جدتي في إحدى صرر وكالة الغوث، ودسته في قدمها ، فطارت فرحاً لأنها حظيت في اللحظة الأخيرة على حذاء، ولن تزف إلى عريسها حافية القدمين.
عمتي كانت امرأة قوية، الأيام والأحزان سرقت صحتها، ورغم تلك القوة التي كنا نضرب بها المثل دوماً، وبرغم عظامها التي باتت طرية ، إلا أنني أرى روحها تحلق، وعشقها لحياة هربت معظم أيامها من يديها يزداد! فتنقل الفرح والبهجة لكل من يجلس معها، بروح فتاة في العشرين!
دارت الدنيا بقلب عمتي كثيراً، عبثت بملامحها، زادت فوق كتفيها الهموم، من أقنع هذه الحياة بأن عمتي جبل المحامل، فعلق على رقبتها كل هذه الحكايات والذكريات؟!
ولا تذكر عمتي حليمة أي الطريقين سلكت وهي تجر ورائها أطفالها وتلحق بأسرة زوجها حتى استقرت بهم الهجرات في مدينة العريش السيناوية، وكأن الأقدار تعمدت أن تصنع من عمتي وجهًا ضحوكاً لكل واحد منا، محطة مشتركة، يمر بها كل من أراد الدخول إلى غزة، ممر آمان، آمان نراه يلمع في عينيها ما أن نلتف جميعنا حولها.
فما أن يمتلئ بيتها بالضيوف العابرين، أو المشتاقين، أحباء كانوا أم غرباء، حتى تراها تركض هنا وهناك، تجمع ما تبقى في ثلاجتها من طعام، وتنفض الأشواق التي يعلوها الغبار فوق رفوفها، وتنثرها أمام ضيفها مخلوطة بحكاياتها القديمة، وضحكاتها التي تبدأ بها كل قصة، ثم تفرد طبليتها الزرقاء فوق حصيرة برتقالية اللون، مخططة بالسواد، لاحقا غيرتها عمتي وافترش لها ابنها قطع السجاد الدافئ في كل أركان المنزل.
ولكن حصيرتها البرتقالية تلك، وحدها من علق بذاكرتي للأبد، لا أعرف لماذا!!
وتخاف عمتي من الفراق، ويبدو أن خوفها جعلها تبتدع طقوسها الخاصة، التي لم نسألها يوماً عن أصلها، عمتي كانت تمتلك ابريقاً أزرق، تضعه دومًا وراء باب بيتها، تملأه بالماء، فترش به الطريق بعد سفر الغائبين المارين ببابها، وما أن تسير سيارة السفر تاركة على بابها غبارها، والكثير الكثير من الوجع، وصمت مخيف يعم أرجاء المنزل ،حتى تسقط من عيناها دمعتان، قبل أن تدخل إلى بيت كان قبل قليل مليئا بالأرواح النابضة، فيبدو كالمجنون الذي سقط مغشيا عليه، بعد أن عاد إلى رشده!
ولكنها حتما، كانت تركن الأبريق الأزرق بأمان في مكانه المعتاد، وترسم ابتسامتها من جديد، واثقة بأن بركة ماءه السحري ستعيدنا في ذات الموعد، في العام المقبل.
كل أبنائها مروا من أمام الباب، صدفة غريبة، وأخوتها أيضًا مروا، وأنا مررت من هناك ذوات سنين، وعمتي ترش الماء خلفنا جميعاً من ذات الأبريق، وفي اعتقادها أن ذلك سيدفعنا للعودة في الصيف القادم، وكنا نعود، ولا ندري، هل هو أبريق عمتي كان صادقاً بالفعل، أم أن منزلها الذي يحوي قطعة من الروح، و قصص طفوتنا، وطبليتها الزرقاء، التي تنصبها كل صباح محملة بأطباق اعتيادية كنا نراها أطيب مذاقا، تتصاعد من أبخرتها أنفاس عمتي حليمة، وهي تركض لتضع لمساتها الحانية بجانب الطبلية، وتنادي على أقرب الفتيات بأن تعاونها بإحضار الخبز والماء، نتناول خيرها فتدب فينا الروح.
تعود الذكرى إلى قلبي الآن، فأسأل نفسي، عن آخر صيف قبل أن نفترق، أتراها دعواتها وترانيمها لم تكن كافية لتجمعنا مرة أخرى حول طبليتها الزرقاء، أم أنها نسيت في تلك الليلة أن ترش ماءها المبارك من إبريقها الأزرق، لذلك لم نعد ؟؟؟!!