رشا فرحات
لم يكن حسن الراعي يدري أنه في يوم ما سيكون لعنة من السماء، على كل سكان الحي، لا يعلم كيف ضغطت الأقدار على حياته وحولته هكذا إلى قلب ميت، يهابه الجميع، اخبار يده التي تبطش في الطرقات، تأكل وتنهب أموال الناس على هويتهم، يتساءل الجميع، إلى أي هوية ينتمي، في كل هذه الأعراق المحيطة بهم، الكل يقتل بناء على الهوية، وكأنها عورة يخفيها الجميع من الجميع! أما حسن، فلا يعلم هويته أحد، من أي بقعة من الأرض أو السماء جاء؟!
ويتساءل حسن كل يوم فيجره تساءله إلى منطقة محرمة، لم يكن يريد لنفسه ان تبدأ هكذا، ولا يعرف كيف ستنتهي الحكاية، يطرح سؤالاً على نفسه، تراها الضباع تشبهني كما يقولون؟! هل كانت تشعر في أول مرة قررت ان تأكل فيها الجيف بهذا الشعور الذي اعتراني وقتها، ثم ألفت الأمر فصارت تتلذذ ؟!
تزوج حسن قبل أربع سنوات، وله طفلان، تزفر زوجته في وجهه زفرة ساخنة كلما حاول اقناعها بشرعية ما لديه من مال، هم وحدهم فقط من يستطيعون الخروج والدخول إلى البلدة منذ بداية الحصار، وهم فقط من يستطيعون شراء الدقيق والرز، منذ منعت الأغذية من دخول المدينة، وهم فقط من يعلمون حقيقة أنفسهم، ومن أي بقعة جاءوا.
قدر معلق بشيء غامض، يعرفه فقط حسن الراعي، في كل مرة يخرج من منزله يودع زوجته وداعاً يحسبه الأخير، ويلقي نظرة على أبناءه، وكأنها الأخيرة، ما أبشع شعورك بالخواتيم قبل تحققها، في كل لحظة، مشية، لفتة، لحظة تلويح بيدك لمن تحبهم، ابتسامة ترسمها في وجه زوجتك، يخال إليك أنها الأخيرة!
يسأل حسن الراعي نفسه كثيراُ، هل أراد لنا الله هذه النهاية، وهذا القدر، ولما يغضب منا وهو الذي أراد لنا ذلك؟! أوَ يكون قاسياً في الكثير من المواقف، ليختبرنا؟!! هل هذا اختبار؟!
يطرد الراعي هذه الفكرة من رأسه، تلك التي تشعل في دواخله تأنيباً يلتصق بعقله طوال النهار، وسيظل يطردها، فليمت من يمت، وليعش من يريد الحياة، لم يكن هو في النهاية من قسم الأرض، والعرض، وصحون الرز وعدد الأرغفة، ولم يكن هو من قتل كل هؤلاء الأطفال جوعاً، إلا إذا كانت الحياة ستلصق به كل هذه التهم وحده، لتكتمل الحكاية!
لف حول جسده درعه الواقي، وحمل سلاحه على كتفه، لوح لطفليه من خلف الباب، تأكد من خلي جيوبه من أي أوراق ثبوتيه، تلفت وألقى نظرة خاطفة مسح بها المكان ، المكان الذي مسحته الطائرات قبل شهر، فبدى اليوم أوسع، وأرحب، وأكثر رعباً، وكهدوء المقابر، أقل ضجيجاً.
تلك كانت تصبيحة كل يوم مع شروق الشمس، وهو يقطع الطرقات التي ما عادت لخرابها تشبه الطرقات، ويطرق ببندقيته على الحجارة المشوهة التي اختلطت بالجوع والموت والأجساد الجافة الممدة في ظلها! وكأنه بطرقاته تلك، يقنع نفسه بأن باق، لأنه الأقوى.
ماذا لو طلب من الله ان يحميهم، ماذا لو تركهم أمانة لديه، هل يجرؤ على طلب كهذا، وهل هناك فرصة أخرى للرحمة، والتائبون في هذه التمثيلية، أي طريق سيسلكون بين القتل والقتل، إلى اين ستذهب يا حسن؟!
خطى خطواته الأولى، يسير على مهل، يأخذ نفساً عميقاً، يعبئ صدره، يزفره على أخره، يرفع رأسه يدور بعينه دورة كاملة على البيوت المهجورة، يرسم ابتسامة جديدة، كتلك التي رسمها بالأمس.
يتمختر كأمير دمشقي، نظرات الخوف من وراء النوافذ، ونوافذ مشرعة على نظرات من غبطة وحسد، وثالثة تمد يد طفل من بعيد، يخاف من مده رأسه، أمه تدفعه ليحركها، يحيه مرغماً، لعل حسن الراعي يرى، او يرد بنظرة وابتسامة، بالأمس ناول تلك السيدة كيس من الرز، وبرتقالتين، ونظرة أخرى، تربط اللسان بالقلب، في هذه المدينة، تربط الألسنة بكوب من الرز!
يقلب حسن الراعي ذكرى في عقله، ويرتجف، قبل عامين حمل سلاحه مرتجفا أيضا، وبعدها بستة أشهر قتل الذبيحة الأولى مرتجفا، ولكأن القتل أبقاه مرتجفا للأبد.
وقبل شهر، كان يتفحص جيوب المارين على الطريق، فيقتل ويعتق حسب أوراقهم، لكل واحد نصيب، ميتة حسب الهوية، حسب الاسم والمذهب، وكلها بما يرضي الشرع، والوطن، والحزب، فلماذا لا يتبختر في مشيته، حين ينام ليلا، يلقي نظرة على أبنائه النيام، ويدفئ كيس المال في خزانتهم، لا يكترث كثيرا كيف سيكون نومه، القاتل ينام أحيانا أيضا!ّ
حسن الراعي ، هو ذاته من وجدوه ملقىً على قارعة الطريق، مقطع الحبال، والحناجر، مبقور البطن جائع، وهويته في يده!